حين دعوته للجلوس قليلا. أشاح بوجهه عني "مش قادر أتكلم وما فييش نفس". لكن ظهره المحني أعادني إلي فيلم يوسف شاهين وشخصية "قناوي" المخبول التي أداها شاهين ببراعة. الفيلم الذي أنتج عام 1958 ولا يزال يثير الأسئلة التي أثارها حول مشاكل "الشيالين" "أي العتالون أو الحمالون". وبخاصة من يعملون بمحطة السكة الحديد. وحقهم في نقابة مهنية. تحميهم. وتؤمن حياتهم ضد مشاكل العجز والمرض والبطالة! تركت الشيخ العجوز إلي حاله وذهبت. وعرفت من آخر كان يراقب الموقف.. اسمه "العم رفاعي" شيخ الشيالين. عمره 85 سنة وما زال يعمل!!. وعندما عرف جمع الشيالين بمهمتي انفضّوا من حولي بشكل غريب فسألتهم "لماذا ابتعدتم!؟". القطارات لا تنقطع.. وأنا أكاد لا أصدق نفسي.. كيف يعمل في هذه المهنة من هو في هذه السن وأحني العمل ظهره بهذا الشكل؟.. علي رصيف آخر اقتربت من أحد الشيالين. عرفته من خلال زيه الأزرق والشارة النحاسية. ولم يكن موجوداً في الجمع السابق. لذا فهولا يدري عن مهمتي شيئاً. سألته عن قطار أسوان فقال: "اسأل هناك فأنا شيال". قلت: "عندك كم سنة يا حاج؟" فأجاب: "64 سنة". وعرفت منه أنه يعمل هنا منذ 40 سنة. وكان قد جاء من سوهاج في جنوب مصر ورمته لقمة العيش علي رصيف المحطة علي حد قوله. ومع مرور السنين تكيّف مع المكان ومتاعبه. وخلالها حمل صليب نصر الله. المواطن القبطي. حقائب وأثقال الكثيرين من الناس.. أجانب. عرب. مصريين. لكنه تعب يريد أن يستريح: "ليس لنا مرتب أو معاش برغم تقديمنا ملفاً فيه كل الأوراق.. مثلنا مثل أي مواطن يعمل في الدولة. وكشفنا كوميسيون طبي بمستشفي السكة الحديد لكننا لن نخرج للمعاش أبداً بل نعمل حتي النهاية مهما كانت الأمراض والمتاعب حعيش منين أنا؟!" تركني صليب نصر الله. وذهب بصري بعيداً إلي سقف المحطة الواسع الشديد الارتفاع الذي يوحي بالرهبة. وتأملت صورة العمارة الإسلامية بزخارفها وعناصرها الجميلة. إنها جدارية جميلة تقاوم فجاجة الروح والزمن. تتعانق معها جدارية أخري كبيرة من الموازييك. تزين واجهة المبني الإداري للمحطة صممها التشكيلي المصري اللامع صلاح عبد الكريم. لكن لماذا يفضل المصريون القطار برغم الحوادث المروعة التي حدثت في السنوات الأخيرة والارتفاع العالي في أسعار التذاكر؟ معالي أحمد. موظفة في شركة عصائر. تقول: "مازال القطار أكثر وسائل السفر أماناً والحوادث فيه قليلة بالنسبة إلي غيره". يوافقها محمد عبد العزيز تمام. أحد الركاب يعمل بالتجارة مشيراً إلي أن "حوادث القطارات عارضة وطفيفة. والسفر بالقطار هو الأسرع والأكثر راحة". وكالعادة في التغني بالأشياء الحميمة احتفي المصريون طرباً بالقطار وبمحطة السكة الحديد. فعفاف راضي تخاطب القطار في أغنية جميلة. تقول فيها: "يا وابور الساعة اتناشر يا مقبل ع الصعيد حبيبي قلبه دايب وانت قلبك حديد" وفي الذاكرة رائعة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب "يا وابور قل لي رايح علي فين.. تطلع كوبري تنزل كوبري". كذلك لم يسلم القطار ومحطته من سخرية المصريين ومزاحهم. فأطلقوا عليه سيلا من النكات الطريفة: "قطر ساب المحطة وراح الصيدلية يحط قطرة".