في آواخر التسعينيات. دعاني ثروت عكاشة إلي حفل عيد ميلاده الثمانين الذي أقامته المثقفة الكويتية البارزة سعاد الصباح. كان الحفل تأكيداً لقيمة ثروت عكاشة لا في الثقافة المصرية وحدها. ولا في الثقافة العربية فحسب. بل في الثقافة العالمية جميعاً. بالإضافة إلي قيمة أخري أهم. متمثلة في البعد الإنساني الذي انعكس في الكثير من مواقف عكاشة. تنقل ثروت عكاشة بين العديد من المناصب المؤثرة. وحصل علي الكثير من الجوائز في مجالات العمل الثقافي. لكن انجازاته كوزير للثقافة تظل هي المعلم الأول. كانت فترة الستينيات كما وصفها جمال حمدان أكثر الفترات ازدهاراً للثقافة. حقق عكاشة ما يمكن تسميته شعبية العمل الثقافي. بمعني أن أداء وزارة الثقافة رفض المركزية التي اتسم بها الأداء في مراحل تالية. لامست عصا الانجاز السحرية كل أنشطة الوزارة. أذكر دعوته لي ولسواي من المشتغلين بالعمل الثقافي لزيارة منطقة أبو سمبل. قبل أن ترفع معابد فيلة إلي موضعها الحالي. تابعنا أنشطة الوزارة من خلال الثقافة الجماهيرية إلي أبعد وأصغر قرية. صار العمل الثقافي امكانية متاحة. وتعرفنا إلي مئات المواهب والقدرات المبدعة. وقرأنا إصدارات الألف كتاب. وتراث الإنسانية. والمكتبة الثقافية أم قرشين. وأعلام العرب. والعديد من المجلات التي تخاطب الاهتمامات المختلفة. وقدم الكونسير عروضه بأسعار رمزية. كما قدمت فرقة رضا والفرقة القومية للفنون الشعبية عروضهما في مدن العالم. وأرخ الثلاثي جاهين والطويل وعبدالحليم للثورة بأغنيات رددتدها الجماهير في امتداد الوطن العربي. وتألق شعر العامية المصرية. وقدم الفنانون التشكيليون أبدع معطياتهم. حتي الندوات الأدبية شكلت ظاهرة ايجابية لافتة. وسعي الشباب إلي قراءة الأعمال التجريبية والطليعية للمبدعين العالميين. وعرضت مسرحيات نعمان وعبدالصبور وسرور والشرقاوي وإدريس ووهبة والخولي ورومان. وأخلص الحكيم ومحفوظ في التعبير عن همومنا الاجتماعية بمزاوجة بين الفنية المتقدمة والجرأة السياسية. واختط محمد حافظ رجب مساراً جديداً رائعاً للقصة القصيرة. وعاد يوسف إدريس إلي صورته الحقيقية في الفرافير والنداهة ومسحوق الهمس. وكتب يوسف الشاروني مجموعته الفذة "الزحام". كان حضور حفل عيد ميلاد ثروت عكاشة آخر لقاءاتي بالرجل. عاد إلي دنيا القراءة والتأمل والابداع التي كان قد اختارها لنفسه. لا مشاركة في المؤتمرات أو الندوات. ولا حوارات. أو ظهور في وسائل الإعلام. وإن طالعنا في فترات متباعدة بإضافات مهمة للمكتبة العربية. أتصور لو أن من تولوا مسئولية وزارة الثقافة حرصوا علي ما ألزم به عكاشة نفسه من القيم. فإننا كنا سنتعرف إلي العمل الثقافي في أروع تجلياته. بدلاً من العشوائية واللا تخطيط والاساءة إلي العمل الثقافي بقيادات فاسدة. واعتبار الضجيج الثقافي والتعبير لفاروق حسني غاية مرجوة. كان ثروت عكاشة هو وزير الثقافة الحقيقي في بلادنا. صفة الأعظم تعني المقارنة بينه وبين آخرين. وهو أمر في تقديري غير وارد.