سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"عام آخر".. في افتتاح الدورة ال34 لمهرجان القاهرة نظرة لفصول الحياة الأربعة تستحق التأمل الجاد المخرج علامة مضيئة في مسيرة السينما والمسرح والتليفزيون البريطاني أفلامه شرائح حية من المجتمع الانجليزي
عام آخر هو عنوان الفيلم الذي سوف يشاهده المدعوون في حفل الافتتاح للدورة ال34 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 30 نوفمبر- 9 ديسمبر يعد الفيلم آخر أعمال المخرج كاتب السيناريو البريطاني مايك لي Mike Leigh مواليد 1943 وقد شهد مهرجان كان عرضه الأول 2010 وعرض في نوفمبر قبل العرض التجاري العام من خلال مهرجان لندن السينمائي الدولي. تتميز أعمال مايك لي بكونها شريحة حية مقتطعة من الحياة والواقع كما يراها هذا المخرج البريطاني القح. وكما تمثلها العلاقات الإنسانية العادية وعلاقات الزواج والحب والصداقة وزمالة العمل إلخ.. إلخ.. وتصويرها من دون مبالغة أو إثارة متعمدة وبلا تملق أو مساومة مع الحقيقة أو السلطة أو حتي للمفاهيم السائدة التقليدية. كآبة طبيعية في أول أفلامه "دقائق كئيبة" Bleak mowents 1971 يحدد الطريق والطريقة التي سوف تميز أعماله.. فهو يختار بطلته "سيلفيا" "آن ريت" كشخصية خجولة منطوية من الطبقة العاملة موظفة آلة كاتبة "تايبست" تتولي رعاية شقيقتها المضطربة عقليا وتتحمل سخافة صديقها الذي يعمل بالتدريس ورزالات زميل لها والمخرج يصور ذلك عبر مشاهد تصل إلي حد التعذيب النفسي. وصف الناقد الأمريكي المشهور روجر ايبرت هذا الفيلم بأنه رائعة سينمائية تتسم بالبساطة والسهولة. ومن أكثر أفلام "لي" نجاجا فيلم "أسرار وأكاذيب" 1996 وقد عرض أيضا في مهرجان كان وحصل علي الأوسكار.. ويدور الفيلم حول امرأة سنثيا "ماريان جان بابتست" وهي شخصية ممزقة مضطربة المشاعر وأم وحيدة تفاجأ ذات يوم بفتاة تهبط عليها من المجهول مدعية أنها ابنتها وتظن سنثيا أن هناك سوء تفاهم أو خطأ هو الذي جاء بالمرأة خصوصا وأنها سوداء. وهي بيضاء البشرة. ولكن يتضح أنه لا خظأ هناك وأن أمورا جادة تكشف عن خبايا وأسرار. ويري النقاد أن هذا الفيلم يعكس بالضبط روح أعمال مايك لي وأن هذا لا يعني أن الفيلم ليس طريفا أو دافيء المشاعر من أفضل أفلام هذا المخرج البريطاني الشهير. وفيلم فيرا دريك 2004 الذي حظي باستقبال طيب من قبل النقاد ورشح للأوسكار كأحسن سيناريو وأحسن مخرج وأحسن ممثلة للممثلة اميلدا ستونتون التي لعبت دور البطلة قيرا دريك بتركيز مفعم بالمشاعر والتعاطف ومثل معظم بطلات المخرج تعتبر فيرا شخصية واقعية مائة بالمائة تتسم بالمرح والتفاؤل رغم أنها تقوم بنشاط غير مشروع وهو إجهاض النساء سرا بغرض مساعدتهن خصوصا وأنهن يواجهن أزمات يائسة وذلك قبل أن يتم تشريع الإجهاض رسميا. الأحداث تدور في الخمسينيات من القرن الماضي قبل قانون إباحة الإجهاض ويعتبر أكثر أفلام المخرج دفئا وإنسانية وهو يهديه إلي أبويه إلي الذكري الحبيبة لوالدي الطيب وزوجته المولدة "الداية". من أفلامه المشهورة أيضا فيلم "عاري" naked 1993 وفيلم "الحياة حلوة" 1990 و"المتواكل" Happy-go- Lucky .2008 عام آخر.. الفصول الأربعة كتب الناقد البريطاني فيليب فرنش في صحيفة الأوبزرفر البريطانية يوم 7 نوفمبر 2010 يقول عن الفيلم ومخرجه: قليل من صناع الأفلام يمكن مقارنتهم بحجم ما أنجزه مايك لي من أعمال بارزة في المسرح والتليفزيون والشاشة الكبيرة علي مدي أربعين عاما. وعبر التراكم الكمي والفترة لهذه الأعمال الدرامية أبدع مايك لي طبعته الخاصة عن بريطانيا تلك التي تسكنها الوجوه الأليفة التي تعاود الظهور في أعماله والتي أصبحت بمثابة جيران لنا في عالمنا. يقول: من الممكن اعتبار أسرار وأكاذيب أعظم إنجازاته حتي الآن ولكنه قدم في الألفية الثالثة أربعة أفلام مشهورة وهي "الكل أو لا شيء" و"فيرا دريك" و"المتواكل" ثم فيلم "عام آخر". هذه الأعمال كافية لأن تضمن له مكانا بارزا ومرموقا بحق في عالم السينما. وهذه الأفلام الأربعة علي اختلافها في الطريقة التي تعالج بها المشكلات الصعبة التي تثير اهتمام الناس الطيبين.. وهي أمر ليس صعبا وبالذات في حالة "فيرا دريك" حيث نجد امرأة من الطبقة العاملة تتجه إلي إجهاض النساء المتورطات في أزمات مستعصية وأيضا في فيلم المتواكل الذي يتكيء علي الحظ وليس علي جهده. يقدم شخصية مدرس شاب جذاب ومتفائل ورغم ذلك يتعرض للمآسي ويصاب بخيبة الأمل. وفي عام آخر نجد الناس الطيبين في الفيلم في صورة زوجين يعيشان حياة زوجية سعيدة لا تخلو من مشكلات.. الاثنان من منتصف العمر متحققان يعملان في وظائف ليست براقة ولكنها تكفي لتغطية حياة مستقرة والزوجان يحيطان أنفسهما بأصدقاء ومعارف أقل حظا منهما ومع ذلك لا يعتدون بأنفسهم ولا يتصرفون بكياسة في بعض الأحيان. يختار مايك لي لبطليه الرئيسيين اسم "توم" للزوج و"جيري" للزوجة. ومثل الشخصيات الكرتونية الشهيرة فهما دائما العراك ولكنهما أبدا لا ينفصلان ويخلص كل واحد منهما للآخر وإن كان في السر بعيدا عن العلانية. "لي" يكثف من خلالهما قيمة للحياة الزوجية وللتلازم والإخلاص وإن عالج ذلك برصانة ورهافة شديدة ودون أدني خطاب مباشر. ومن خلال تصويرهما لهذه الشخصيات بالتعاون مع المخرج وتوجيهه استطاع الممثل جيم برودبنت والممثلة روث شين أن يمنحا توم وجيري حياة مشبعة بالحيوية والدفء وأن يقدما للمشاهد التفاصيل اليومية في حياة تتسم بالخصوصية من حيث البنية والمزاج. بعيدا عن ادعاءات الطبقة الوسطي توم وجيري ينتميان أصلا إلي الطبقة العاملة وإن كانا درسا في جامعة مانشستر والتقيا هناك أثناء الدراسة وبينما يعيشان حياة مريحة في منزل بضواحي لندن إلا أنهما متحرران من صفات التظاهر والتكلف التي تميز الطبقة المتوسطة. يعمل "توم" مهندسا جيولوجيا ويتلامس مع الناس في مؤسسات المجتمع. كما أنه يتواصل مع الأرض وطبقاتها التحتية وقد ساعده العمل علي التجول والسفر حول العالم وتعمل الزوجة جيري مستشارة في مجال الصحة العامة ووظيفتها تجعلها علي الدوام في مواجهة مع مشكلات الناس والنساء. في بداية الفيلم تظهر جيري مع سيدة في منتصف العمر تعاني من الاكتئاب تلعب دورها الممثلة الرائعة اميلدا ستونستون وهذه السيدة المكتئبة متزوجة من رجل سكير وتعيش علي العقاقير ولا تري فائدة في الحياة. وينقسم "عام آخر" إلي أربعة فصول متتالية وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء وهي تحاكي الفصول نفسها التي تمر بها حياة الإنسان وفي كل فصل يستخدم المصور ديك بوب وهو مدير التصوير المفضل للمخرج إضاءة مناسبة جدا للمزاج والمعني ولكن من دون مبالغة أو لفت نظر والفصول الأربعة تعكس دورة الطبيعة وتجددها المتواصل وكذلك تقدم الحياة من الميلاد وحتي الموت ويوظف المخرج علي النحو التقليدي معاني كل فصل فالربيع مثلا يعني التجدد والميلاد والحمل المتقدم بالنسبة للمرأة والموت يحدث حين تكسو الثلوج الشتاء. تجاوب توم وجيري وتوم وجيري يراعيان الفصول كل علي حدة وكذلك يرعيان أصدقاءهما الذين يصلون إليهما حاملين مشكلاتهم معهم.. بعض الأصدقاء يتمحور حول ذاته ولا يري أبعد من أموره الحياتية ومنهم زملاء عمل مثل شخصية ماري "ليزلي مانفيل" المرأة الرومانتيكية التي تعيش وحيدة تضللها الخيالات وذلك بعد سلسلة من العلاقات الفاشلة وهي عادة ما تهبط علي منزل صديقتها لزيارتها وأيضا مثل شخصية "كين" "بيتر وايت" صديق الزوج توم. السكير المدخن بشراهة. وهو أيضا بدين وأعزب ويعمل في وظيفة ليست طموحة وقد جاء قادما من مدينة هال لقضاء عطلة الأسبوع في فصل الصيف حتي يشارك أصدقاءه أوجاعه. وهو يجلس في الحديقة الخلفية يرتدي ال"تي شيرت" ويشارك في عملية الشواء "الباربكيو" وشعاره في الحياة "قليل من التفكير. كثير من الشرب". ماري أيضا مدمنة كحول رغم انكارها لذلك وترفض محاولات كن في التقرب منها رغم كونها ملائمة لشخصيته. بهذه الشخصيات الواقعية غير الغريبة ولا الشاذة عن مجتمعها والتي تتحول بفضل الأداء التمثيلي الطبيعي غير المتكلف إلي شخصيات حية وطريفة ومؤثرة جدا في بعض المشاهد. الزوجان توم وجيري من النوع التلقائي. السلس والبسيط وهما لا يحاكمان أصدقاءهما وأحيانا كثيرة لا يواجهونهم فأخطاؤهم بسبب تعاملهم مع الحياة لا يواجهونها بالصدق والاشتباك معها رغم أنها أشياء ضرورية وأساسية بالنسبة لنشاطهم المهني أما تجنب الصراحة فهو ضرورة في العلاقات الشخصية. الابن الوحيد للزوجين توم وجيري واسمه "جو" محام يعمل في الخدمة العامة وإسداء المشورة وهو مثل أمه يتعاطف مع مشكلات الآخرين ويراعي ظروفهم وها هو يصل أخيرا في زيارة إلي والديه بعد غياب يصحب فيها صديقته "كارينا فرناندز" وهي فتاة مرحة تشبه شخصية "سالي" التي سبق ظهورها في فيلم "المتواكل" وهي تعمل في رعاية كبار السن وعمل علاج طبيعي لهم في مصحة بشمال لندن. فجأة يجتمع شمل الأسرة وتتلاقي موضوعات الفيلم في بؤرة تركيز تضم توم وجيري وابنهما جو. انهم يشكلون جزيرة تبعث علي التفاؤل والرضا وسط العالم الحزين والمقموع لشخصيات "كين" و"ماري".. والاثنان معزولان عن المحيط الأسري وهما يمثلان السكان النموذجيين للعالم الذي نعيش فيه فهما من هؤلاء الذين تعايشوا وعانقوا الستينيات من القرن الماضي وتشبعوا بروح ومزاج وتمرد هذه الفترة وقد صاروا الآن كبارا في السن. جيل ما بعد الحرب يضم الفيلم بعضا من جيل ما بعد الحرب الثانية الذين عاشوا زمنا يتسم بالصرامة والقسوة. وهي ذات الروح التي شكلت شخصية "فيرا دريك" أنهم هؤلاء الصبيان والبنات الذين ولدوا في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات ولم يتوقعوا أبدا أن يعيشوا مرحلة منتصف العمر والشيخوخة بالطريقة التي عاشها آباؤهم وأجدادهم. إنهم الآن يواجهون مرحلة تبدد الوهم وتراجع الأخلاقيات. ان "عام آخر" فيلم رصين وأقل كآبة بكثير مما يوحي به في البداية.. وهو أيضا عمل يستحق التأمل الجاد. ومثل كل أعمال المخرج الأخري يبدو وكأنه يصطاد الحياة من فوق جناح طائر مع أنه في حقيقة الأمر يمسك بها وقد أصبحت مدربة ومسيطرا عليها ورشيقة مثل النسر.