رغم التحديات الكبيرة التي واجهت الاقتصاد المصري بعد ثورة 25 يناير إلا أن التكلفة الاقتصادية للثورة ظلت أقل بكثير من مثيلتها مقارنة بالعديد من دول العالم ومقارنة بدول الربيع العربي خاصة ليبيا فقد أدت سلمية الثورة إلي المحافظة علي قطاعات الإنتاج والمصانع كما استطاع النظام المالي القوي المتمثل في البنك المركزي والجهاز المصرفي في توفير السيولة اللازمة لحركة الاقتصاد إلي جانب الحفاظ علي سوق صرف العملات الأجنبية وهو ما أدي إلي الحفاظ علي قيمة الجنيه المصري الذي صمد في وجه الأزمات التي أعقبت الثورة ولم يفقد سوي بضعة قروش من قيمته في الوقت الذي توقع فيه الكثيرون تهاوي قيمة الجنيه علي خلفية تراجع موارد النقد الأجنبي خاصة السياحة. وفي دراستها حول أداء الاقتصاد المصري في العام الأول للثورة أكدت الدكتورة سلوي العنتري عضو مجلس إدارة بنك ناصر الاجتماعي أن الاقتصاد المصري يواجه بالفعل مجموعة من التحديات الصعبة التي ترتبت علي السياسات الاقتصادية المطبقة علي مدار العقود الثلاثة الماضية وسوء إدارة الفترة الانتقالية بعد الثورة وخاصة فيما يتعلق بالانفلات الأمني وملف السياحة والسياسة المالية. ومع ذلك فإن الاقتصاد المصري ليس علي شفا الإفلاس كما ردد بعض مسئولي حكومات المرحلة الانتقالية فقد انتظمت مصر علي مدي الشهور الماضية في سداد جميع التزاماتها الدولية ووفقا لبيانات البنك المركزي المصري تم خلال الفترة يناير- يوليو 2011 سداد نحو 4.6 مليار دولار مديونيات سيادية بالعملة الأجنبية سواء للبنوك المحلية أو للدول الدائنة أعضاء نادي باريس وللوفاء بأعباء خدمة الدين وانعكس ذلك علي تراجع نسبة الدين الخارجي "حكومي وغير حكومي" إلي الناتج المحلي الإجمالي من 15.9% في يونيو 2010 إلي 15.2% في يونيو 2011 كما أن احتياطيات مصر الدولية تغطي الديون الخارجية قصيرة الأجل نحو 7 مرات كما ولا تمثل أعباء خدمة الدين الخارجي ككل سوي 5.7% من حصيلة الصادرات السلعية والخدمية. وتشير الدراسة إلي أنه علي الرغم من ظروف عدم الاستقرار السياسي والانفلات الأمني فإن البيانات الرسمية تشير إلي استقرار معدلات الاستثمار المحلية كما تشير إلي زيادة حصيلة الصادرات المصرية وإيرادات قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين في الخارج خلال الفترة يناير- سبتمبر 2011 عن المحقق خلال الفترة المماثلة من العام السابق فقد ارتفعت حصيلة الصادرات إلي نحو 21.1 مليار دولار مقابل 18.5 مليار دولار خلال الفترة المقارنة وبلغت إيرادات قناة السويس 3.9 مليار دولار "مقابل 3.5 مليار دولار" كما ارتفعت تحويلات المصريين العاملين في الخارج لتصل إلي 10.4 مليار دولار بما يتجاوز المحقق خلال السنة المالية السابقة بأكملها والذي بلغ 9.7 مليار دولار. معدلات النمو حول معدلات النمو المحققة تشير "العنتري" في دراستها إلي أن معدل نمو الاقتصاد المصري بلغ خلال السنة المالية الأخيرة نحو 1.9% مقابل 5.1% خلال السنة المالية السابقة وذلك علي الرغم من أن توقعات بعض المؤسسات الدولية كانت تنصرف إلي أن معدل النمو لن يتجاوز 1% في أحسن الأحوال في ظل ما يقترن بالثورات عادة من هدم وتدمير إلا أن الواقع المصري كان مختلفا ففي ظل سلمية الثورة تم الحفاظ علي كامل الهيكل الإنتاجي والبنية الأساسية وباستثناء خط الغاز في سيناء لم يتعرض أي من المصانع أو محطات المياه أو الكهرباء إلي هدم أو تدمير. ويعكس التراجع في معدل نمو الاقتصاد المصري بصفة أساسية الانفلات الأمني وسوء إدارة الفترة الانتقالية فقد أدي استمرار الانفلات الأمني إلي التأثير بالسلب علي حركة نقل البضائع ومستلزمات الإنتاج وحال دون انتظام العمل في العديد من المصانع والمنشآت التي أغلقت أبوابها أو خفضت معدلات التشغيل وفاقم من الأمر استمرار الاحتجاجات بين صفوف الطبقة العاملة والعديد من فئات المجتمع محدودة الدخل في ظل عدم استجابة الحكومات المتعاقبة لمطالب وضع حد أدني كريم للأجور وانعدام القدرة علي ضبط الأسواق والأسعار أو حتي ضمان حصول الجماهير العريضة علي السلع الأساسية كرغيف الخبز أو أنبوبة البوتاجاز.. وحول أداء ميزان المدفوعات بعد الثورة كشفت الدراسة عن تراجع عجز كل من ميزان التجارة وعجز ميزان العمليات الجارية والتحويلات فقد أدت الزيادة الكبيرة في الصادرات إلي تراجع عجز ميزان التجارة بنحو ملياري دولار كما أدت الزيادة الكبيرة في تحويلات المصريين العاملين في الخارج وزيادة إيرادات قناة السويس إلي تخفيف أثر الانخفاض الحاد في إيرادات السياحة والذي بلغ ما يقرب من 3 مليارات دولار بنسبة 31.5%. إلا أن قيام الأجانب ببيع ما في حوزتهم من أذون خزانة وأوراق مالية متداولة في سوق الأوراق المالية قد اسفر عن تدفقات رءوس أموال إلي الخارج خلال الفترة من يناير- سبتمبر بنحو 8.9 مليار دولار مقابل تدفقات للداخل بنحو 12.2 مليار دولار خلال الفترة المماثلة من العام السابق فضلا عن انخفاض تدفقات الاستثمار المباشر لتقتصر علي 375 مليون دولار مقابل نحو 5.7 مليار دولار خلال فترة المقارنة وبذلك اسفر الموقف النهائي لميزان المدفوعات خلال الفترة يناير- سبتمبر 2011 عن عجز كلي قيمته 12.7 مليار دولار مقابل فائض بنحو 719 مليون دولار خلال الفترة المماثلة من العام السابق.. أما الاحتياطيات بالعملات الأجنبية فتري الدراسة أن الاحتياطيات الدولية الرسمية لأي دولة تمثل المدخرات التي يتم تكوينها والاحتفاظ بها لمواجهة أي قصور في موارد النقد الأجنبي عن تغطية التزامات مالية خارجية حالة لذا فإن الحكم علي مدي كفاية الاحتياطيات الدولية الرسمية عادة ما يقاس بعدد شهور الواردات الأساسية أو إجمالي الواردات السلعية التي تغطيها ومدي قدرتها علي تغطية الديون الخارجية قصيرة الأجل مشيرة إلي أن الشهور العشرة السابقة شهدت اللجوء إلي الاحتياطيات الدولية الرسمية لمواجهة القصور الشديد في موارد النقد الأجنبي نظرا لخروج ما يقرب من 9 مليارات دولار تشكل مبيعات الأجانب لما في حوزتهم من أذون الخزانة ومحافظ أوراقهم المالية في البورصة والتراجع الحاد في كل من إيرادات السياحة وتدفقات الاستثمار المباشر ليصل الاحتياطي حاليا إلي ما يقرب من 18 مليار دولار بما يغطي نحو واردات 4.8 شهر. عجز الموازنة وبحسب الدراسة فإن السنة المالية المنتهية في يونيو 2011 شهدت اتساع عجز الموازنة العامة للدولة ليرتفع إلي 130.4 مليار جنيه بما يمثل 9.5% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 98 مليار جنيه تمثل 8.1% من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة المالية المنتهية في يونيو وقد جاء هذا الاتساع في عجز الموازنة العامة للدولة كنتيجة أساسية للزيادة في إجمالي المصروفات العامة بنحو 26.1 مليار جنيه من ناحية وتراجع الإيرادات العامة بنحو 8.5 مليار والواقع أن الموازنة العامة للدولة في مصر تعاني منذ سنوات من عجز متزايد. تؤكد الدراسة أن الاقتراض لا يمثل السبيل الوحيد والحتمي لتوفير الموارد اللازمة لموازنة عامة تلبي طموحات القاعدة العريضة من المواطنين فالنظام الضريبي في مصر لازال يمثل نموذجا صارخا للإمكانيات الضخمة المهدرة والمحاباة لأصحاب الدخول المرتفعة سواء تعلق الأمر بالسمات الرئيسية لذلك النظام أو بالحصيلة الفعلية للضرائب. فالنظام الضريبي المصري يقوم علي تطبيق حد أقصي موحد لمعدل الضريبة علي الدخل والأرباح بواقع 20% دون تفرقة بين المشروعات والأفراد من جهة وبين مستويات الدخول المختلفة من جهة أخري ويمثل هذا الوضع محاباة صريحة للدخول من عوائد الملكية مقارنة بدخول العمل وتأكيدا لتلك المحاباة يتم إعفاء التوزيعات علي اسهم رأسمال شركات المساهمة والتوصية بالأسهم والتوزيعات علي حصص رأسمال شركات المساهمة والتوصية بالأسهم ويعني هذا أن كبار رجال الأعمال يدفعون ضرائب فقط علي ما يتلقونه من أجور ومكافآت مقابل مناصبهم الإدارية في الشركات التي يملكونها أما الدخول التي يحصلون عليها مقابل ملكيتهم لرأسمال تلك الشركات فلا يدفعون عنها أي ضرائب لأنها معفاة بحكم القانون!