لو دققت في كثير من الأزمات التي انفجرت في مصر بعد الثورة فسوف تكتشف أن سببها يرجع إلي الاستقطاب السياسي الذي نعيشه بين الإسلاميين في جهة والليبراليين والعلمانيين في جهة أخري.. ومع مرور الأيام أصبح الانقسام بين المعسكرين حاداً واتسعت الهوة التي تفصل بينهما.. ومما يؤسف له أن الأغلبية سقطت في هذا الاستقطاب وصارت جزءاً منه. وصاحبت الاستقطاب حالة من الخوف المتبادل بين المعسكرين.. كل طرف يشكك في تصرفات الآخر وقدراته ونواياه.. ولم يعد هناك حد أدني للثقة والاتفاق أو التوافق ولو علي القواعد المتعارف عليها ديمقراطياً. الإسلاميون يتخوفون من مؤامرة تعد في الخفاء للانقلاب علي الديمقراطية وعلي نتيجة الانتخابات.. والليبراليون يتخوفون من سيطرة الأغلبية الكاسحة للإسلاميين علي البرلمان وانفرادهم بالسلطة بما يمكنهم من وضع دستور تفصيل يعبر عنهم وحدهم ويتجاهل بقية الأطياف السياسية والدينية في المجتمع. ووسط هذا الاستقطاب وبسببه تتصاعد أزمة الدستور بين فترة وأخري.. منذ استفتاء 19 مارس الماضي وانحياز الأغلبية للانتخابات أولاً وحتي الآن.. ولو دققت النظر فسوف تكتشف أن أزمة الدستور أو أزماته المتكررة لا تتعلق بخلافات حول مضمون المواد الموجودة أو المقترحة وإنما تتعلق بتخوف كل فريق من الآخر.. ومما يضمره للدستور الجديد.. ورغبة كل طرف في أن يحتفظ لنفسه بدور مهم في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور ويضمن عدم طغيان الطرف الآخر وهيمنته علي هذه الجمعية المثيرة للجدل.. والتي أصبح تشكيلها مشكلة المشاكل. تقول المادة "60" من الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس الماضي والمعمول به إلي الآن: "يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسي شعب وشوري في اجتماع مشترك بدعوة من المجلس الأعلي للقوات المسلحة خلال ستة أشهر من انتخابهم لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو تتولي إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها.. ويعرض المشروع خلال خمسة عشر يوماً من إعداده علي الشعب لاستفتائه في شأنه.. ويعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء". ورغم هذا الوضوح الذي لا لبس فيه فإن الجدل لم يتوقف حول ضمانات ومعايير وضوابط تشكيل الجمعية التأسيسية.. وهو الجدل الذي يعبر بكل صدق عن حالة الاستقطاب الحادة.. والتي تزداد حدة مع الوقت.. وفي سبيل تهدئة المخاوف صدرت عدة وثائق تحمل مبادئ عامة يمكن أن يلتقي عليها الطرفان المتنافسان.. وقد بدأت فكرة هذه المبادئ في الحوارات الوطنية التي نظمها د.عبدالعزيز حجازي في مرحلة والدكتور يحيي الجمل في مرحلة أخري. ثم صدرت وثيقة الأزهر في يونيه الماضي بعد حوار بين فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب ومجموعة من المثقفين الليبراليين لتحديد مفهوم المرجعية الإسلامية.. وفي يوليو صدرت وثيقة التحالف الديمقراطي من أجل مصر.. وهو التحالف الذي شارك فيه أكثر من 90 حزباً كان علي رأسها حزبا الحرية والعدالة والوفد والكرامة الناصري.. وذلك قبل انسحاب الوفد منه علي أبواب الانتخابات. والعجيب أن هذه الوثائق جميعاً لم تختلف جوهرياً في مضمونها.. خصوصاً فيما يتعلق بالفصول الخمسة الأولي التي تتناول هوية الدولة وتأكيد مبدأ المواطنة المتساوية لكل المصريين دون تمييز.. وانتماء مصر العربي والإسلامي واعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وتدعيم الدولة المدنية والتعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة وحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة.. ومع ذلك لم يتوقف الجدل حول الدستور وجمعيته التأسيسية.. ولم تهدأ حالة الاستقطاب. وكلما خطت مصر خطوة في اتجاه الاستحقاقات الديمقراطية وبناء مؤسسات الدولة انفجرت الأحداث وعادت المظاهرات والاعتصامات وانتهي الأمر إلي الدستور وجمعيته التأسيسية وضمانات وضوابط ومعايير تشكيلها. بعد أحداث ماسبيرو ظهرت وثيقة د.علي السلمي التي تتقاطع مع قضية الدستور وتقتحمها.. وبعد أحداث شارع محمد محمود جاء المجلس الاستشاري التابع للمجلس العسكري الذي يتقاطع أيضا مع ضمانات وضوابط ومعايير تشكيل الجمعية التأسيسية.. وربما يكون المجلس قد تراجع عن دوره المفترض في هذا المجال بعد الرفض الشعبي الذي ووجه به.. لكن الأزمة لم تتوقف. يوم الأربعاء الماضي نشر موقع جريدة "اليوم السابع" علي الإنترنت أن 12 شخصية عامة تقدموا بطلب إلي الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء يقترحون فيه تشكيل لجنة تأسيسية لوضع الدستور الجديد عن طريق توافق القوي السياسية أو بالانتخاب في سياق مستقل عن مجلس الشعب وما حددته المادة 60 من الإعلان الدستوري. ومن المصادفات أن أبرز الموقعين علي هذا الطلب كان د.يحيي الجمل ود.علي السلمي.. ولكن نظرة سريعة علي التعليقات التي وردت علي هذا الخبر تؤكد أن الأزمة لم ولن تتوقف مادام الاستقطاب مازال قائماً بهذه الحدة.. فكل من قرأ الخبر كتب كلمة واحدة في تعليقه تقول: "ولعتوها". لذلك فإن السبيل الوحيد لحل أزمة الدستور واسقاط المخاوف المتبادلة يجب أن يبدأ بعلاج حالة الاستقطاب وذلك من خلال التزام كل طرف بإصدار ما يعرف ب "إعلان نوايا" حول رؤيته للدستور الجديد وإدارة سلسلة من الحوارات بين الأحزاب والكتل السياسية بشأن ما يصدر عنها من نوايا حتي نصل في النهاية إلي تعهدات والتزامات متبادلة لضرورة تحقيق التوافق الوطني حول المواد الأساسية في الدستور وعدم انفراد حزب أو تيار بتشكيل الجمعية التأسيسية حتي يكون هذا التشكيل بالتوافق وليس بالغلبة. لو نجحنا في ذلك فسوف نختصر خطوات كثيرة ونتجاوز عقبات كثيرة ظهرت وعقبات أخري يمكن أن تظهر اليوم أو غداً. إشارات: * في أيام الانتخابات انخفض إقبال الزبائن علي دور السينما إلي أدني حد.. وهكذا كلما انصرف اهتمام الجماهير إلي القضايا الجادة سقط الفن الرخيص.. وفي أيامنا القادمة سوف يتراجع "الهبل الفني" ولن يذهب الناس إلا إلي الفن الأصيل.. الفن الحقيقي. * أتمني أن نكون قد نجحنا فعلاً في حملة "اشتر المصري" وقتلنا عقدة الخواجة. * عودة الأمريكان من العراق يؤكد هزيمتهم علي المستوي الاستراتيجي لأنهم ببساطة لم يحققوا شيئاً من الأهداف التي جاءوا من أجلها اللهم إلا إسقاط صدام حسين.. رجلهم الذي صنعوه وساندوه وأخيراً حفروا له حفرته. * رحم الله الدكتورة جيهان رشتي رائدة علم الاتصال بالجماهير وأستاذة الرعيل الأول من خريجي كلية الإعلام جامعة القاهرة في أواسط السبعينيات من القرن الماضي الذين صاروا اليوم نجوماً في الصحافة والإذاعة والتليفزيون.