جلست أدقق من جديد في الصور ومقاطع الفيديو المنتشرة عن ثورة 25 يناير وتوابعها الأليمة والحزينة منذ بدأت المعارك الضارية الدموية ضد الذين صنعوها وشاركوا فيها. ولم يكن الهدف استعادة ما جري. لأن ما جري لم ينته فنحن مازلنا نعايشه ونشهد فصلا من فصوله الكالحة. والأحداث نابضة مازالت في ذاكرة النسبة الأكبر من الأجيال الحالية وهم شهود عليها. في أحد اللقاءات القريبة قالت مخرجة شابة ونحن نستعرض هذه الأيام "أنا سعيدة لأنني استطيع أن أحكي لأحفادي إذا امتد بي العمر أنني شاركت في هذه الثورة وكنت في ميدان التحرير. فمن لم يشارك أو يشاهد ميادين التحرير المصرية إبان الثورة. فاته التاريخ الذي صنعه الشعب يوما بيوم. هذه المخرجة نفسها اعتذرت عن لقاء عمل بعد مذبحة الأحد 9 أكتوبر عن الحضور قائلة بصوت حزين "أنا في حالة حداد وعاجزة عن التفكير.." جلست أدقق في مفردات الصور وأتأمل التشكيلات الجمالية العفوية المبهرة.. المجاميع المليونية العزيزة التي بدت كتلة واحدة متجانسة احتمي بروحها واصطاد الأمل من جديد. كادرات بصرية استثنائية ليست من صنع مخرج لأن أبرع المخرجين يعجز قطعا عن بعث هذه الروح الواحدة المنطلقة من ملايين جمعهم حلم واحد استحضار البراكين المتفجرة من رحم الغضب ضد القمع والجوع. وكذلك الجموع العاطفي والامتزاج التاريخي لصوت واحد صادر.. أضف إلي هذه الصور المؤهلة ألوان الدم والدخان وكتل الضباب يلف المكان. ووجوه الثائرين وهم يستقبلون غاز القنابل والرصاص المطاطي. والرصاص الحي. والجثث علي الأرض. ومن هذهالصورالنادرة تشكيلات قطع الطوب الصغيرة والكبيرة وكسر الرخام الذي جمعها إلي الميدان في عربات نقل المشهد يغطي المساحة التي يسكنها عشرات الألوف من المتظاهرين. أيضا حركة الكر والفر والاشتباكات مع الشرطة بجوار النيل الممتد الذي تقطعه كباري تقطب بأفواج المتجهين إلي الميدان للمشاركة في الثورة. وملامح الوجوه جماعات وفرادي. وأيادي مرفوعة تلوح بأعلام مصر وصور الذين أذلوا المصريين وأفسدوا حياتهم.. كل هذه الصور ثابتة وحاضرة وحية إلي جانب طوابير المدرعات ووجوه الجنود ورؤوسهم المغطاة بالخوذات وصدورهم بالسواتر البلاستيك. تضم هذه الصور أيضا ردود فعل الجماهير الغاضبة التي يستحيل إعادة إنتاجها بهذا الزخم وبقوة هدير الأصوات المتزامنة التي تهز الملايين "ارحل.. ارحل". التدقيق في هذه الصور وهي داخل جهاز كمبيوترك أشبه بمشاهدة ملحمة بصرية سمعية تتصاعد وتيرتها حتي تصل إلي "كرشندو" مهيب لن تصنعه أي ثورة شعبية أخري وصل تعداد الذين خرجوا من منازلهم للمشاركة فيها إلي نحو 19 مليون مواطن. لغة جمالية جديدة التشكيلات تؤرخ للغة جمالية بصرية فريدة جمالها في عفويتها. في نبل إيحاءاتها. وصدق صانعيها.. جمالها لها أنها متدفقة كالشلالات. ناعمة كبراعم الورد. حية وناطقة وبألوان شاسعة التنوع من الغضب والثورة والاحتجاج والفكاهة. والدعاية والفرح الطاغي المنهمر كالمطر علي أرض عطشانة هذه الصور جمعها عدد من الشباب في مقاطع فيديو. ومن خلال كاميرات المحمول وكانت إلهاما لعدد آخر انعكس في عدد من الأفلام. والحصيلة وإن كانت فقيرة مازالت مشاهدها جمهور مهرجان الإسكندرية حتي قسم خاص بأفلام الثورة. ثورة مضادة ولم يتوقف شباب الفيس بوك والتويتر وحاملي كاميرات المحمول. من رصد فصول الثورة وتداعياتها ومحاولات الإجهاز عليها. ثمة مقاطع مصورة للقتلي والجرحي. وثمة مشاهد الدهس من السيارات والمدرعات. تقف أمامها وتفاعلها بقلب مفطور.. فمعارك الثورة المضادة بدأت مع بداياتها في جمعة الغضب ومعركة الجمل التي تصلح لفيلم أكشن عبثي. ومشاهد فض الاعتصامات. ومعركة البالون. والسفارة الإسرائيلية والعباسية وحتي الأحد الدامي" أمام ماسبيرو 9 أكتوبر .2011 الصور هنا أكثر إنباء من الكلمات ومن المؤتمرات الصحفية. وهي في مجموعها تشكل ملحمة رهيبة بين ثوار وبلطجية. بين شعب وأعدائه من أبناء هذا الشعب نفسه. من عُزل لا يمتلكون سوي سلاح إرادة وأشواق الحلم بالحرية والكرامة ولقمة العيش. وبين مدرعات وقناصة بين فقراء لا يملكون سوي ثراء الضمير الحي وبين من لديهم المليارات المنهوبة ومستعدون لتمويل معارك التصدي لهذه الثورة. محصلة الصور تثير العجب والتساؤل وإن هناك سؤالاً يشغلني طرحته أثناء ندوة اقيمت في مهرجان الإسكندرية عن أفلام الثورة السؤال يقيني يرتبط "بالوسيط" الذي يحمل مشاهد من الملحمة المصورة من 25 يناير وحتي الآن.. وأعني أفلام الديجتال. السؤال: كيف يمكن أن نحافظ علي هذه المقاطع التسجيلية الرقمية للأجيال القادمة دون أن يصيبها التلف. وهل هذاالوسيط "أفلام الديجتال" بمقدوره "تقنيا" أن يصمد لزمن طويل؟! السؤال يحتاج إلي إجابة علمية دقيقة.. فنحن نعرف أن أفلام السيليلويد السينمائية. تحتاج إلي تخزين "صحي" له شروط وظروف خاصة. وبعد فترة تحتاج إلي ترميم وهي عملية مكلفة جدا ماديا وبسبب هذه التكلفة يمكن أن نخسر أفلاماً مهمة. إن هذه الثورة محظوظة لأنها علي خلاف الثورات السابقة تم تسجيل تفاصيلها كاملة وبمليون كاميرا ومليون محمول. والشباب الذي صنعها يمتلك ثقافة الصورة ويعرف تأثيرها وقيمتها ولديه سلاح الفيس بوك واليوتيوب مع أنه كان يقاتل الشرطة والقناصة والجلادين بقطع الحجارة. يواجه بها أسلحة أمريكية متطورة. المفارقات صارخة فعلا إذ كان الشباب الذي يعرف لغة العصر يحارب بالطوب والفلول بالأسلحة والقناصة. وفي إحدي فصول الملحمة يحاربون بالجمال والجياد وفي فصول أخري بالسيارات المصفحة والقتل بالدهس. المشهد الثوري الذي استمر حتي سقطت الرأس خلف الذيول التي أدارت معارك الثورة المضادة وأعدوا الخطط والسيناريوهات وآخرها يوم الأحد الدامي 9 أكتوبر 2011 أمام مبني ماسبيرو بما يدل عليه هذا المبني ويجسده. صور الصدام والاشتباكات بين عناصر من الجيش وبين المتظاهرين الذين تسللوا من مكان ما بدت قائمة ورهيبة ومفزعة بلون دم الشباب ومنهم وجوه بارزة في اليوم صور الثورة مثل "مينا دانيال" الذي حملت جثته آثاراً من معركة الغضب والجمل والعباسية ومات الأحد. قلت في مناسبات عديدة أن حظ ثورة 25 يناير أوفر من ثورات 1919 و1952 لأن صورها داخل كلينات وعلي شاشات كمبيوتر كل من يمتلك جهازاً وصور شهداء الأحد الدامي طارت بسرعة ال EMAIL إلي الخارج بعد الحدث بوقت قليل صور الأمهات الثكلي إلي جوار جثث الأبناء المدهوسة بالسيارات الثقيلة. شاهدها العالم. إن ألبوم صور الثورة والثورة المضادة تملأ "مجلدات" وهذه المجلدات تملأ "أرفف" مكتبات محفوظة للتاريخ. ومن المستحيل سرقتها أو حرقها. لأنها مكتبات "رقمية" والأرفف ليست ملموسة ولكنها مرئية ومحفوظة لكتاب التاريخ.. ولكن كيف نحفظ الأقراص المدمجة "DVD" التي صنعها الشباب عن الثورة وكيف نبقي علي الأفلام الروائية التي نسجها خيال صناع الفيلم مستلهمين أحداث هذا الكفاح الطويل الذي يخوضه الشعب المصري من أجل التحرير الفعلي.. سؤال ربما يبدو ساذجا أو جاهلا. دقق في الصور وركز في تسلسل ما جري منذ 25 يناير وحتي الآن وكلها في "دارك" وعلي جهاز الكمبيوتر.. وسوف تجد أن الصراع ينبئ بحرب طويلة وسوف تجد أيضا من بين المشاهد صورا تذكر بطالبان والقاعدة. وأخري تعيد إلي الذاكر وجوها منذرة وبملامح جديدة وغريبة. إن الصورة أكثر انباء من الكلمة وأحيانا تحمل الكلمات صورا تعبر ببلاغة عن صورتنا. علي التوتير تقرأ: "يا مصر فيكي كل حاجة وعكسها.. نتصور مرة جنب الدبابة.. ومرة تحتها".