يتخوف البعض من الانتخابات القادمة.. ظناً بأن الشعب قد لا يحسن الاختيار.. قد يقع تحت تأثير الدعاية الخادعة فينخدع ويصوت لمن لا يستحق.. ومن ثم تأتي الأغلبية في البرلمان القادم الذي هو أول برلمان للثورة علي غير المأمول.. وساعتها قد يحدث ندم حين لا ينفع الندم.. وقد تترتب علي هذا الاختيار الخاطئ نتائج سلبية يصعب علاجها.. وربما ينتهز الفريق الفائز الفرصة عندما يتسلم السلطة فيمارس علينا ديكتاتورية جديدة ويغلق أبواب الديمقراطية حتي لا تجري انتخابات أخري تسلب منه السلطة وتدفع بها لآخرين. وبصرف النظر عن المآخذ التي يمكن أن تثار في وجه هذا التفكير الذي لا يخلو من وصاية علي الشعب وادعاء للحكمة فإن المنطق الصحيح يقتضي من الجميع التسليم بأن ألف باء الديمقراطية هو الثقة في قرار الشعب واختياراته.. والامتثال لما تسفر عنه صناديق الانتخابات.. لأننا لو حدنا عن هذه القاعدة فسوف نتوه.. وتتفرق بنا السبل.. وقد نندفع في أي طريق آخر غير طريق الديمقراطية التي طال اشتياقنا لها.. وقامت الثورة من أجلها.. لكن الديمقراطية كما نقول ليست الانتخابات الحرة النزيهة فقط.. الديمقراطية عملية تفاعلية مركبة.. فيها الخطأ وفيها الصواب.. وهي تصحح نفسها بنفسها وبشكل مستمر.. دون وصاية من أحد.. شريطة أن يبقي القرار دوماً في يد الشعب.. ويبقي الاختيار اختياره. من هنا كان من الضروري أن نعود إلي الأصل في الموضوع.. وأن نتمسك بفضيلة التواضع ونحن نتكلم عن الشعب واختياراته.. ولا نفعل مثلما كان يفعل السابقون الذين كانوا يملأون الدنيا بشعارات تتحدث عن الشعب المعلم والشعب الملهم بينما هم في الواقع يسومون هذا الشعب سوء العذاب.. ولا يحترمون إرادته.. ولا يعترفون بحقوقه المشروعة.. ويمارسون عليه أبشع ألوان الاستبداد والديكتاتورية. من حق الشعب أن يختار من يراه أهلاً للحكم والسلطة.. ومن حق الأغلبية أن تعطي أصواتها لمن تراه جديراً بها.. بل ان من حقها أن تخطئ في بعض الأحيان مثلما تصيب.. فقد جل من لا يخطئ.. ولا يمكن تصور أن الأمور سوف تسير في طريق الصواب المطلق.. الصواب علي طول الخط.. كلا.. هذا تصور غير واقعي.. ومن يقل به عليه أن يطلع علي تجارب الشعوب التي سبقتنا في طريق الديمقراطية.. ففي هذه التجارب كثير من الخطأ وكثير من الصواب.. لكن المهم ان الشعب في حالتي الخطأ والصواب هو الذي يملك قراره وكلمته واختياره. والإنجازات الكبري في هذا العالم لم تكن لتتحقق إذا لم يكن مسموحاً للقائمين عليها بهامش الخطأ.. فمن الخطأ يأتي الصواب.. ولو لم يكن هناك خطأ ما تحقق الصواب.. تستوي في ذلك الإنجازات العلمية الكبري والإنجازات السياسية التي يتفاخر بها بنو الإنسان اليوم.. بل اننا في حياتنا الخاصة لن ننجز شيئا ذا قيمة ولن نكتسب أية مهارات جديدة علينا لو اننا خفنا من التجربة ومن الخطأ.. هل تعلم أحدنا ركوب الدراجة دون أن يقع علي الأرض مرات ومرات.. وربما اصطدم بالرصيف وسقط وأصيب بجروح؟.. وهل تعلم أحدنا قيادة السيارة دون أن يقع في أخطاء ويرتكب مخالفات وربما يتسبب في حادث مرور؟ إذن علينا ألا نخشي التجربة وألا نظل متوجسين من احتمالية سوء الاختيار.. وإنما علينا أن نقبل علي تجربة الانتخابات وكلنا ثقة في أنفسنا.. وفي قدرتنا علي الاختيار والتمييز بين الصالح والطالح.. بين الغث والسمين.. وحتي لو أخطأ البعض وأساء الاختيار فإن آليات الديمقراطية قادرة علي أن تصحح هذه الأخطاء. في بريطانيا أم الديمقراطية ينتخبون المحافظين مرة ثم يكتشفون أنهم أساءوا الاختيار فيتحولون في المرة التالية إلي حزب العمال.. والعكس صحيح.. ونفس الحال في أمريكا وألمانيا وغيرهما من الدول الديمقراطية.. ولولا التجربة والخطأ ما كان هناك معني لمفهوم تداول السلطة. ثم إن هناك عاملاً آخر في القضية لا يمكن إغفاله.. هذا العامل يتعلق بما يعرف ب "المزاج العام للشعوب".. وهو مزاج متحول بطبعه ويتأثر بعوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية متداخلة.. ففي فترة معينة تتجه الأغلبية إلي اليسار وفي فترة أخري تتجه إلي اليمين.. وهذا المزاج ليس مسألة عشوائية بالطبع وإنما يرتبط باحتياجات الجماهير المادية والروحية.. ووجود عناصر قيادية رائدة وملهمة علي الساحة السياسية تلبي هذه الاحتياجات وتعبر عنها. ولو نظرنا إلي واقعنا السياسي خلال العقود القليلة الماضية فسوف نكتشف طبيعة هذا التحول واتجاهاته.. وإلي أي مدي وصل بنا. لقد بدأ السادات التجربة الحزبية في أواسط السبعينيات من القرن الماضي في ظل وجود تيار ناصري هادر ومتهيمن علي الشارع المصري.. وبالذات في الجامعات والنقابات العمالية.. وكان كل همه أن يضرب هذا التيار أو يحتويه ولهذا السبب أعطي الضوء الأخضر لجماعات التيار الإسلامي أن تنشط وتنتشر. ومع بداية حكم مبارك كان تيار التجمع اليساري هو صاحب الصوت الأعلي علي الساحة السياسية بفضل كاريزما خالد محيي الدين ومصداقيته.. وبفضل اجتذابه للعناصر القيادية الوطنية الرافضة لمعاهدة السلام والتطبيع مع إسرائيل. ثم حدث تحول لصالح الوفد سراج الدين ثم تحول آخر لصالح التحالف الإسلامي مع حزب العمل إبراهيم شكري الذي ضم الإخوان وحزب الأحرار.. كل هذا بالطبع كان يعبر عن ديناميكية التفاعل السياسي والاجتماعي في المجتمع وحراكه الدائم.. مع إغفال الحزب الوطني الذي لم يكن حزبا طبيعيا عاديا تجري عليه قواعد العمل الحزبي وسننه ومتغيراته.. وإنما كان حزب السلطة وحزب الحكومة الذي يضمن الفوز والاكتساح في كل الأحوال.. ومهما كانت الظروف. وإذا كان مزاج الأغلبية الآن مع الإخوان فعلي الآخرين أن يتعاملوا مع هذا المزاج بواقعية.. ويجتهدوا في تغييره وطرح البديل.. إن كانوا جادين ولديهم القدرة والرغبة. ومن ناحية أخري فإن مزاج الأغلبية "الإخواني" ليس قدرا مقدورا.. وإذا لم يبذل الإخوان جهودا مضاعفة للاحتفاظ بثقة هذه الأغلبية.. وإذا لم يأت عطاؤهم المادي والمعنوي علي قدر ما هو مأمول فيهم فإن التحول قد يقع سريعاً بما لا يشتهون. المهم في النهاية أن يأتي من يأتي بإرادة الشعب.. وأن يرحل أيضاً حين يرحل بإرادة الشعب.. ولا صوت يعلو علي صوت الشعب.. حقيقة لا مجرد شعارات هذه المرة. إشارات: * نخطئ حين نطلب من د. عصام شرف ما ليس في إمكانه ولا إمكان حكومته.. ويخطئ د. عصام عندما يعد بما ليس في إمكانه ولا إمكان حكومته.. يجب أن نتذكر.. نحن وهو.. أنه رئيس حكومة انتقالية غير منتخبة حتي لا يرتفع سقف طموحاتنا. * أيضاً يجب أن يظل المجلس العسكري يدير ولا يحكم حتي لا يصبح هدفا دائما للنقد والهجوم.. فلا حصانة لمن يحكم ويشرع تعفيه من النقد.. وقد بدأت "الوفد" أمس بمانشيت يقول: "الخطايا العشر للمجلس العسكري". * وبالمناسبة.. سياستنا الخارجية مازالت تسير علي نفس النهج الذي رسمه مبارك بلا أدني تغيير.. مجرد ملاحظة. * المفاوضات مع اثيوبيا حول سد الألفية ومياه النيل يجب أن تكون جادة وحاسمة.. ويجب أن يفهم إخواننا في اثيوبيا أن صاحب الحق لا يمكن الضحك عليه بمعسول الكلام.. تلك كانت مرحلة وانتهت مع مبارك وحاشيته. * أتقزز جداً مما أقرأ لبعض كتابنا الذين كانوا يسبحون بحمد مبارك ليلا ونهارا ثم انقلبوا عليه اليوم.. لكنني أحترم جداً الذين ظلوا علي موقفهم ولم يغيروا جلدهم.. وأخص بالذكر هنا الزميل عبدالله كمال الذي كنت معجباً بكفاءته المهنية عندما كان رئيسا لتحرير "روزاليوسف" ورافضاً بشدة لما يكتبه في مقالاته.. واليوم أسجل احترامي له وأرثي لحال طابور المتحولين. * رحم الله صديقي الأعز د. محيي الدين عبدالحليم رائد الدراسات الصحفية والإعلامية بجامعة الأزهر.. صاحب القلب الأبيض واللسان العفيف والقلم الطاهر المبرأ من الرياء والنفاق والكذب.. اللهم اغفر له وارحمه وتقبله في عبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين.