لقد خسر الشعر فارسا من فرسانه في وقت يتضاءل فيه هذا الفن. مقابل الأجناس الفنية الأخري. ولكن مازال صوت سعد الخولي يرن في أذني رنينا مثل رنين قنطار من الذهب علي رخامة فاخرة. فحينما أدلف إلي صومعته كان يصب لي كئوس الشعر من دلاء روحه فأصغي إلي هدير صوته المعبأ بالصهيل . وهو يعزف نوتات الجمال والرحيل. والوله والحنين فازداد به إعجابا وإكبارا. فحين تحط نوارسه علي باب قلبي. تأخذنا النشوة. فكانت فراشاته دائمة التحليق في سماء الإبداع فتغسلنا من أوجاع الحياة. كبرنا معا علي شاطئ القصائد.وشربنا من موسيقي تفاعيله. وتريضنا في حدائق البحتري والمتنبي وأبي تمام. وابن الفارض والسياب. ومظفر النواب . ولا أزال علي مسافة منه لايملؤها سوي أشواقي لسماع صوته وهو يرسل دندناته ويوزنها علي إيقاع البحور الصافية التي سوف تشتاقه وتتوق إليه. لم أنس أول مشاركة له معي في النيل الثقافية پوجلست أتأمل كيف لتلة صغيرة أن تقف بمحاذاة جبل شامخ. وكيف لجدول صغير أن يهمس في حضرة المحيط الهادر؟ فلقد اخترق شعره وجداني علي شفافية الورق. هنا اكتشفت ذلك الفلاح المنتمي للحقول التي صقلته بالقيم وأمدته بالجمال. وزملته بدثار الصفاء والنقاء. وخلعت عليه ملامحه السمراء . وزرعت في وجدانه نخيل العزة. وأودعته أحلامها. فامتص هذا كله فكان آية أخري من آيات التجلي. فسعد الخولي الذي خسرناه جسدا. هو ذاته الواقف الآن علما علي جبل القصيدة . وقد زادته عاصفة الموت خفقانا. وهو ثابت علي قمته تبكيه القوافي فوق منابر الشعر في أبوظبي وبيروت. پپ لا أدري ماذا أقول وروحه الطاهرة ترفرف حولي وتحوطني وتحثني علي المضي في الكتابة عن تجربته. لقد استوقفني كثيرا التشكيل الفني للغلاف وعلاقته بالعنوان والمحتوي. ورقة خضراء وشجرة معتمة تساقطت أوراقها. فاللون الأخضر يرمز للحياة والحركة والسرور. ومبعث للهدوء .كما أنه رمز للخير والإيمان. وهذه عندي تلخص المثل والقيم التي كان يحيا بها وعليها الشاعر سعد الخولي وهذا محور الجمال في الجزء الأول من العنوان. وجاء الجزء المعتم من الصورة معبرا عن الرحيل الذي تمثله تلك الشجرة التي جف عودها ثم ذلك العنوان الذي يتكون من ثلاث كلمات مرافئ /للجمال/ والرحيل. نقلت باللون الأبيض. لتدل علي الصفاء ونقاء السريرة والبساطة في الحياة. وهأنذا أجلس علي أطراف حروفه أتنفس عبيرها الرقيق. فما أرق معزوفته "أنا لن أسامح مرتين"پوهو الجالس علي مجد المعني بتراتيله وترانيم حروفه الوارفة المونقة الثمار. وهو يجسد حالة الانشطار والقلق الإنساني بين أمل يرتجيه ويبحث عنه. وضياع يلازمه. فهو بين الحالتين¢ عمر پتبعثر في المتاهات وقلب بين بين¢ فيقول: وأنا بقلب الريح مشدوهپ ومشطور إلي نصفين نصف أنا والآخر الأمل المسافر في دمي أيناه؟ أين؟ وأنا المضيعپ أو كما شاء الهوي لن أسامح مرتين¢ حروف تشعل وجع الضياع. فما أنقي حسه ووجدانهپعندما يوقظ الذات علي عتبات الخوف من المجهولپ وعند التحليق في قصيدة "قبل اكتمال الحلم" ففي هذه القصيدة نجد حروفا تسقط وجعا علي الذات.فقلب سعد الخولي تضرج بلهيب الالتياع. وويلات الضياع. قد رسم حروفها من جمر يشق عباب الغياب لذلك الولد المحروم من دفء الأمومة والأبوة والأخوة . فيناديه رغم الجفاء ومازال ينتظر عودته : يا أيها النائي الذي سرق الفرح كم عشت أرقب غصنك المعطار يعلو فوق أحلامي يسابقنيپ يطارحني المودة فوق شطآن المرح وكم انتظرتك تسند العود الذي لعبت سنين العمر به فإذاك تثقله بموجوع القرحپ وإذاك تفزع بصبوتك التي هزت جبين العمر - زهوا - فانجرحپ نحن أمام شاعر جمع الجمال من مخبوء الروح. فتوسدت كلماته ولغته أرواح قارئيه ومحبيه. يرسم علي قلوبنا لوحة تنساب ألوانها شذا قنينة التأمل التي يتراقص فيها الحرف فيشع نورا في دواخلنا. أليس هو القائل : شعري فضاء الروح جن جنونه من ينكر المعني ومن يرتاب أودعته جب المساء معطرا فالتاع نهد واستفاق نقاب شعر بديع فيه عزف وغناء يتغلغل في مسامات الروح. له طلاوة تمس الحس بعذب المعاني. فعند السباحة في فضاء روحه نري إنسانا جميلا. وأبا حانيا رقيقا. يهش لاستقبال "أدهم" الذي جاء في خريف العمر فجرا جديدا يحمل الربيع علي كفيه فيخصه بقصيدة من قلبه "زهرة من دمي" هو القلب مهدك لو تعلم وإني برب الوري أقسم فأهلا وسهلا بضيف أهل وجل المصور والمنعمپ ولأن الخريف نذير الرحيل يضعنا الشاعر أمام سؤال الوجود المبهمپ تراني سأحيا أزف الأماني إليه؟ سؤال هو المبهم فإن عشت آنس مني رحيما وإلا فربي به أرحم هذه كانت إطلالة سريعة علي ديوان "مرافئ للجمال والرحيل" للمرحوم الشاعر سعد الخولي . الذي رأيت في شعره جودة السبك. وقوة اللغة. والتماسك في بناء الهرم الشعري. والتكثيف في المعاني. والإكثار من الجواهر واللآلئ من لغتنا الفصيحة. فهو يمتلك ثروة لغوية كبيرة. يفتقر إليها الكثيرون. من الشعراء الذين يملأون الساحة ضجيجا. فجميع ماكتبه سعد الخولي من شعر كلاسيكي أو تفعيلة يشير لتمكنه من اللغة نحوا وصرفا وعروضا. إلي جانب موهبة شعرية كبيرة. فهو واحد من الشعراء المتميزين فنا وأصالة. فهو ينتمي حسب منهج وأسلوب وطابع كتاباته إلي المدرسة الشعرية الغنائية الحديثة وهو بذلك يلتقي مع كبار شعراء العرب الذين أغنوا وأثروا هذه المدرسة بروائعهم. سلاما لروحك الطاهرة. وعلي قبرك السلام.