أعجبني الوصف الذي أطلقه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان علي نفسه في حواره مع الإعلامية المتألقة مني الشاذلي عندما قال: "لست زعيماً ولا قائداً وإنما أنا خادم للشعب التركي". ولاشك أن هذا الوصف يعني أن الرجل يدرك طبيعة اللحظة التاريخية التي يعيشها.. فقد سئمت الشعوب من الزعماء والقادة وصارت تبحث عن رئيس عادي وشخص عادي من بين الناس.. يتواضع أمامها.. ويؤمن بأنه يسير بإرادتها.. ومكانه خلف الشعب وليس أمامه. ونحن في مصر.. وفي كل الدول العربية.. مازلنا ننتظر الرجل الذي يرضي بأن يكون خادما للشعب.. ويطلق علي نفسه هذا الوصف الجميل.. وينفر من الزعامة والقيادة التي جرت علينا الويلات. لقد شبعنا من الزعماء والقادة الذين طغوا في البلاد.. أذلونا واستعبدونا وضيعونا وأضعفونا وأفقرونا وأنهكونا وسرقونا. أردوغان قدم التجربة.. النموذج .. المثل .. ولهذا تعلقت به أنظار الشعوب العربية علي أمل أن يأتيها حاكم قوي وديمقراطي مثله.. علي نفس الطراز.. لديه الطموح والقدرة علي الإنجاز والحسم.. الشخص الجاد الذي يتفاني في عمله.. وينظر للمنصب العام علي أنه أمانة ومسئولية وتكليف من الشعب ومن الله.. فيخلص في أداء دوره.. وفي الوقت ذاته يحترم شعبه ويخفض له الرأس.. ويقول أنا خادم لهذا الشعب. أقول هذا وأنا أعي جيدا أن أردوغان بشر يخطئ ويصيب.. وأرجو ألا يؤخذ كلامي علي أنه تمجيد لشخص.. وإنما هو مجرد احتفاء بنموذج وتجربة ناجحة.. وربما يأتينا من هو أفضل من أردوغان لنقدم معه تجربة مصرية خالصة تناسب ظروفنا وتلائم طموحنا. إن تجربة أردوغان تستحق الاشادة والتقدير خصوصا فيما يتعلق بالنموذج الذي قدمه للعالم.. نموذج الاسلام المعتدل المنفتح الديمقراطي الذي يحترم حقوق الانسان وآدميته.. وأيضا فيما يتعلق بالنموذج الفريد المبهر الذي قدمه في مجالات التنمية والاستثمار سواء عندما كان رئيسا لبلدية اسطنبول أو عندما انتخبه الشعب رئيسا للحكومة.. وثالثا فيما يتعلق بالموقف القوي الذي اتخذه في مواجهة العنجهية الإسرائيلية.. وهو موقف كنا نتمني ان نراه من دولة عربية قبل أن نراه من تركيا الشقيقة. لكن من الضروري أن يكون واضحا أن إشادتنا وتقديرنا لهذا النموذج الأردوغاني سيحجبان عنا بعض المواقف التي نختلف فيها معه.. وفي مقدمتها تعريفه العجيب للعلمانية الذي قدمه للإعلامية الفاضلة مني الشاذلي حين قال إن العلمانية تعني أن تكون الدولة علي مسافة واحدة من كل الأديان.. وأن العلمانية تتعلق بالدولة وليس بالأفراد.. فتركيا دولة علمانية ولكن أردوغان ليس علمانيا.. هكذا قال. وأظن أن هذا التعريف فيه كثير من المجاملة للعلمانية لتجميلها أمام الشعوب.. وأظن أننا لو رفعنا كلمة العلمانية ووضعنا بدلا منها كلمة "الديمقراطية" لاستقام المعني والهدف.. لأن العلمانية في معظم التعريفات المشهورة تعني أن تكون الدولة بعيدة عن الدين.. فلا شأن للدين بالدولة ولاشأن للدولة بالدين.. وهذا التعريف "المشهور" يجعل العلمانية بفتح العين في صدام مباشر مع الإسلام الذي له شريعة وأحكام تنظم كثيرا من أمور الدولة. أما إذا تطرقنا الي تجربة العلمانية في تركيا علي وجه التحديد فالكلام فيها كثير ومرير.. لان العلمانية التركية الاتاتوركية كانت في عداء رهيب مع الإسلام .. واستهدفت في كل مراحلها السابقة قبل مجئ أردوغان استئصال الهوية الاسلامية من تركيا التي كانت تمثل دولة الخلافة الاسلامية تاريخيا وعلي مدي أربعة عقود وهناك 99% من سكانها مسلمون. والمهتمون بالعلمانية وتطبيقاتها العديدة والمتنوعة يعرفون جيدا أن العلمانية في الغرب عموما وفي الدول الاسكندنافية وأمريكا خصوصا كانت أخف وطأة من عدائها للإسلام والمسلمين وللثقافة الاسلامية والهوية الإسلامية من العلمانية الأتاتوركية التي لم تكن أبداً علي مسافة واحدة من كل الاديان والأيديولوجيات كما يدعي. ومن ناحية أخري فنحن نحتفي بموقف أردوغان من اسرائيل لكننا في الوقت ذاته نرفض موقف أردوغان في تعامله مع العراق الشقيق الذي بلغ ذروته بقرار يسمح للقوات البرية التركية بعبور الحدود المشتركة والتوغل في الأراضي العراقية لتعقب المسلحين الأكراد المتمردين.. هل هذا قرار يحترم القانون الدولي والشرعية الدولية واستقلال دولة شقيقة مجاورة؟! كنا ننتطر إجراء أفضل من ذلك لحكومة أردوغان.. إجراء يتم بالتنسيق مع الحكومة العراقية الشرعية ويقدر الظروف الاستثنائية التي يعيشها أشقاؤنا في العراق ولا يعتدي علي سيادة أراضيهم ويشعرهم بضعفهم واستكانتهم.. أو يدفعهم للدخول في حرب لا مصلحة لاحد فيها مع جارتهم القوية التي تريد أن تلعب دورا إقليميا أكبر وأوسع مما هي عليه الان. قالت صحيفة "اندبندنت" البريطانية في عددها الصادر أمس إن أردوغان يقوم بزيارة لمصر وليبيا وتونس في مهمة لزعامة العالم العربي سعيا لأن تصبح بلاده القوة المهيمنة علي الدول المسلمة في الشرق الاوسط.. وأضافت ان تركيا استفادت من "الربيع العربي" لأن الأوضاع الحالية تمهد لها الطريق لأن تملأ فراغ الزعامة في الوقت الذي أصبحت فيه دول مثل مصر وسوريا أضعف مما كانت عليه قبل اندلاع الثورات الشعبية كما أن العراق لم يتعاف حتي الان منذ سقوط صدام. ونحن نقر بأن أردوغان قدم نموذجا ملهما لشعوبنا لكنه سوف يخطئ كثيرا جدا إذا تصور أن بإمكانه أن يفرض علينا زعامته وهيمنته أو حتي رؤاه ومفاهيمه.. فذلك تراث اندثر وانتهي مع بزوغ الربيع العربي.. ونحن الآن أمام واقع جديد تماما.. وجيل جديد تماما.. جيل لايبحث عن زعماء وزعامات.. وإنما يسعي لبناء نموذجه الخاص بنفسه.. ويصنع المستقبل الذي يناسبه بنفسه.