في أي "صفقة" يوجد الكسبان والخسران.. وفيلم "هيبتنا" يعتبر أغلي تجربة سينمائية شاهدتها من حيث تكلفة "الفرجة" فقد دفعت من حر مالي مائة جنيه كاملة "شاهدته مرتين في مول العرب" حتي أعيد قراءته من جديد مثلما أفعل عادة مع التجارب السينمائية المحترمة. لم أقرأ رواية محمد صادق المأخوذ عنها الفيلم. ولكني أعجبت بالفيلم وتعجبت من حجم الاقبال عليه. فالفيلم تجربة مصرية غير عادية بالتأكيد وليس مجرد عمل سينمائي ترفيهي رومانسي فقط وإن كان الحب حاضراً منذ أول دقيقة وفي كل مكان مرت عليه الكاميرا بدءاً من قاعة المحاضرات الفخمة المزدحمة بجمهور مثقف بالضرورة. وعاشق للأستاذ المحاضر أخصائي علم النفس وحتي اللقطة البانورامية الأخيرة للحي العتيق ومبانيه التي شهدت قصص الحب. الأستاذ المحاضر الذي يؤدي دوره ماجد الكدواني يلقي محاضرته الأخيرة بما يتضمن ذلك من شحن وترقب وحزن دفين لدي كثير من الحاضرين وأيضا من الأساتذة زملائه بالجامعة فكلمة أخيرة تطوي ضمنا معاني الفراق لأستاذ في علم نفس وخبير في خبايا وتلافيف المشاعر الإنسانية ويعرف أبعادها وقد عاش بنفسه تجارب الحب كما يتضح لاحقاً فضلاً عن جماهيريته ومكانته في هذا المجال. وموضوع "هيبتنا" غير عادي إذن ليسقط "المال" أمام متعة "الفرجة" علي الفن "الحلال" ولا أعني المعني الديني بالطبع وإنما اشير إلي أحقية الفيلم في الدخول إلي "محراب" الابداع السينمائي. لست وحدي الكسبانة في هذه "الصفقة" ف"الصفقة" في محاضرة "شكري مختار" ومن وجهة نظره مراحل الحب السبعة قبل أن يقتله الملل. وهناك أيضا مئات المشاهدين الذين غامروا بمشاهدة الفيلم أكثر من مرة دون النظر إلي تكلفة "الفرجة". رقم "7" "هيبتنا" كلمة أغريقية تعني رقم "7" وسبعة رقم "عجيب" وله "قداسة" ويشير كما جاء في "المحاضرة الأخيرة" إلي عدد المراحل التي يمر بها المحبين. كل المحبين هنا وفي أي مكان.. فالموضوع إنساني يعالج موضوع الحب عموماً. وبينما يستطرد الأستاذ "شكري" أخصائي علم النفس في شرح نظريته عن "هيبتنا" تتجسد هذه الحالات من الحب عبر أربع قصص عاطفية رئيسية: الحب في الطفولة.. في المراهقة.. عند البالغين والحب بعد منتصف العمر كل حكاية تمثل حالة من حالاته السبعة صعوداً وهبوطاً.. سحر الحب. والاستحواذ عند المحبين ونزعات التملك. والاحتياج والغيرة والملل .. و.. ويتضمن السيناريو قصصاً فرعية تتناول شخصيات ثانوية ولكنها حاضرة أيضا وبقوة. مثل حالة الفشل في العلاقة العاطفية بين الزوجين "كندة علوش. وهاني عادل" والتي انتهت بانتحار الزوجة وحالة العجوز "أحمد بدير" المليء بالحب والحياة ويعاني من مرض عضال ووحدة بعد أن هاجرت ابنتاه وفي النهاية يموت.. فإذا كان الحب حاضراً بمراحله "السبعة" فإن الموت ليس بعيداً كذلك ولا يقل تأثيراً علي المحبين. فالشاب المراهق "كريم" "أحمد مالك" مات أبواه في حادث بالسعودية وهو بعد صبي صغير. وكذلك انتحرت والدة "رامي" "أحمد داود" بطل القصة الثانية وحاولت "علا" "دينا الشربيني" الانتحار وفي النهاية يموت "يوسف" "عمرو يوسف" أحد أبطال واحدة من الفصص الأربعة وحتي الأستاذ المحاضر "شكري مختار" الذي يمسك بكل الخيوط لا يلقي المحاضرة الأخيرة فحسب وإنما يعيش الفصل الأخير من حياته لأنه يعاني من مرض عضال كما نفهم لاحقاً. بعيداً عن الميلودراما "وائل حمدي" كاتب السيناريو نسج الخيوط القصصية المرتبطة بعدد كبير من الشخصيات بأسلوب سردي مدهش وشيق. خيوط تتداخل وتتوازي وتتقاطع وتترادف في اتساق وانسجام داخل بناء يستحوذ علي الاهتمام ومن دون الوقوع في فخ الميلودراما رغم الموت المخيم علي بعض الأجزاء ورغم حالاته المتعددة. وبرغم النهايات التي لا تبدو مبهجة مثل البدايات وهنا يستحق المونتير "أحمد حافظ" اشارة خاصة لأن نعومة التداخل والقطع وفر للفيلم عنصر الحيوية والتدفق والابتكار وحقق ألفة غير معتادة مع نص سينمائي غير مألوف. ومن العناصر الجاذبة أيضا حوار الفيلم الناعم والراقي المختار بعناية للتعبير عن تنوع أعمار الشخصيات وتجربتها الحياتية ومرحلتها السنية وحساسيتها ومزاجها واندفاعها أو ثباتها وعمقها. أيضا عنصر "التشخيص" واختيار فريق التمثيل المناسب جداً لكل شخصية وأبدأ بشخصية "شكري" التي جسدها ماجد كدواني باعتبارها العمود الفقري في بناء الفيلم منه يبدأ وبه ينتهي وهو أيضا مركز الثقل موضوعياً. وحامل رؤاه وفلسفته في الحب وتحليله للمراحل السبعة باعتيار أن "الحب" كائن حي يزدهر ويمرض ويموت أو يستمر وإن اتخذ أشكالاً متنوعة. لكنه في "جوهره" الحقيقي أكسير الحياة. فالدقيقة الواحدة منه تعني عمراً. وقد أدي الكدواني الشخصية برصانة وعمق واحساس عال ولغة ونبرات صوت محملة بالدلالات وباحساس ينبيء بما لم يتضمنه الكلام المنطوق مما ينعكس تأثيره علي جموع الحاضرين داخل القاعة. فكل ما يقوله ليس بعيداً عن تجربته الشخصية حيث تظهر في نفس القاعة امرأتان تعكس ملامحهما تأثير كلامه وتنطق نظراتهما بردود فعل كل منهما إزاء ما يقوله بينما يتابعانه باهتمام بالغ احداهما "شيرين رضا" التي ترتبط بماضيه والأخري بحاضره والطريف أنهما متصالحتان مع نفسيهما ومع ذلك الحبيب الذي يلقي محاضرته الأخيرة والاثنتان لعبتا الدور باقتدار وبأقل قدر من الحوار. ليست واحدة قصص الحب الأربعة قد تكون واحدة لأنها تجسد فصولاً مختلفة من قصة الحب التي تتكرر كثيراً وان اختلفت النهايات والعبرة في النهاية ولكنها ليست لشخص واحد كما يري كثيرون المحاضر نفسه فالمحاضر بطل قصة واحدة فقط منها. هي قصة يوسف ورؤي" "عمرو يوسف وياسمين رئيسي" لكنه ليس بالتأكيد باقي الشخصيات وإلا دفعنا ذلك إلي إعادة النظر في عنصر "التشخيص" وطبيعة الأحداث التي جرت لكل واحد بدءاً من الطفل "شادي" وحتي "يوسف" الذي سقط من أعلي البناية في النهاية. القصص الأخري بمثابة شرح تفصيلي مجسم لحالات الحب في مراحله المختلفة كما يعرفها أخصائي النفس فكل قصة تمتلك عناصر الجذب الخاص بها "شادي" الطفل وجارته زميلة المدرسة التي أصابها الزهق عندما أخفقت في إرضائه.. وقصة "كريم ودنيا" "مالك وجميلة عوض" التي عولجت بحساسية شديدة نظراً لطبيعة الشخصيتين ولعبهما الممثلان بتلقائية وعفوية وبقاموس لغوي مناسب جداً لاعمارهما وللحياة التي عاشها كل منهما. وظهرت "أنوشكا" في دور أم "دنيا" في مشهد واحد ولكنه يكشف مهارة المخرج في فن إدارة الممثل و في منح الممثل بطاقة تحمل اسم الشخصية التي يؤديها تظل ضمن تاريخه الفني. فإدارة الممثل كما ظهرت في الفيلم لا تعني فقط لغة الحركة الجسمانية داخل إطار الصورة أو رسم ردود الفعل عبر ملامح الوجه وإنما كيفية بعث روح "الشخصية" وحضائصها التي ينفرد بها عبر التفاصيل الدقيقة والعابرة كالاعتراف بالحب في كلمة واحدة مفاجئة. أو دفع الحبيب المريض علي المقعد المتحرك والانطلاق به عبر ممر المستشفي في سرعة وشقاوة محببة. أو مثل رقصة "ياسمين رئيسي" في أول تعارفها ب"عمرويوسف" الكاشفة عن روح منطلقة ومحلقة في الخيال ثم ما جري ل"يوسف" وما عبر عنه في دفقات من المشاعر والعاطفة ومن الاحباط والفتور حين يتسلل "الملل" أو تتحكم غريزة التملك. أو الرغبة في الاستحواذ بعد أن يزول سحر الشرارة الأولي وتبهت جذوة العاطفة. الشخصيات في فيلم "هيبتنا" تعتبر بحق مصدراًمن مصادر جاذبية الفيلم وحيويته واختيار الممثل المناسب للقيام بها إحدي مهارات المخرج "هادي الباجوري".. فالجميع في حالة لياقة فنية. "أحمد داود" في دور "رامي" الرسام الرافض لكوابح الوظيفة والروتين والعابث ظاهرياً ولكنه الجاد والمبتكر في تعبيره عن الحب وكذلك "دنيا الشربيني" في دور "علا" و"ياسمين رئيسي" في دور "رؤي" و"عمرو يوسف" في دور "يوسف".. و"جميلة عوض" في دور "دنيا" و"أحمد مالك" في دور "كريم" و"أحمد بدير" في دور المريض التواق جداً إلي ممارسة "الأبوة". ثمة مزايا للفيلم لا يمكن اغفالها في هذه التجربة التي تكشف عن حرفية عالية في صناعة الفيلم كعمل فني وتجربة بصرية سمعية استحوذت علي جمهور بدا بالنسبة لي جديداً. أشير إلي كاميرا "جمال البوشي" التي قدمت بلغة جمالية المعادل الموضوعي البصري لحالات الحب لغة مفعمة بالحيوية والاختيار الجيد للأماكن وللزوايا التي تصنع لغة خاصة تمنح لهذه الأماكن شخصية ودوراً ومعني. أيضا موسيقي "هشام نزيه" المثيرة التي تضاعف من الحالة الشعورية الخاصة في تجربة الفرجة التي تأسر الحواس وتترك أثراً يمتد لفترة بعد مغادرة صالة العرض.