ليس حكماً بالبراءة أزعم بأن القاضي الذي أصدر بالأمس حكماً يلغي قرار محكمة أول درجة الخاص برفع اسم الرئيس السابق حسني مبارك وزوجته من الميادين والمكتبات والهيئات ومحطات مترو الأنفاق استند إلي سببين أساسيين: الأول: أن رفع الأسماء من المواقع والأماكن العامة أو تثبيتها ليس له علاقة بالقضاء وإنما له علاقة بإرادة الشعب وحكمه. الثاني: أن الأدلة والبراهين والوثائق والتحقيقات التي أمامه علي الورق لم تقنعه بنسبة مائة في المائة بأن هذا الرجل "محمد حسني مبارك" وزوجته يستحقان أن يرفع اسماهما من المواقع والأماكن التي وضعا عليها. ما معني هذا؟! معناه بالطبع ليس براءة الرئيس السابق من التهم التي وجهت والتي ستوجه إليه كما فهم بعض الذين حضروا الجلسة وهللوا احتفاء واحتفالا بالحكم.. ورفعوا اللافتات المؤيدة لمبارك وزوجته. وإنما معناه كما جاء في منطوق الحكم: "عدم اختصاص المحكمة بنظر تلك الدعوي واحالتها لمجلس الدولة" وهذا ما يؤكد أن القضية ليست قانونية ولكنها قضية سياسية في المقام الأول.. أو قضية شعبية تتعلق بإرادة الجماهير التي لا يمكن أن تتداول في كلامها محطة مبارك ومكتبة سوزان مبارك إذا كانت ترفض الاسمين. ليس لدي أدني شك في أن اطلاق اسم مبارك وزوجته علي كثير من المدارس والمكتبات والمباني والمحطات كان من قبيل النفاق السياسي.. وقد درجنا في مصر علي اطلاق اسم الرئيس وزوجته ابتداء من السيدة جيهان السادات علي المواقع والأماكن لهذا السبب "النفاق السياسي" وأوقعنا ذلك في مستنقع الفساد العميق.. لأن الشعوب المحترمة لا تطلق أسماء زعمائها علي الآثار والمدن والمواقع والمحطات إلا بعد وفاتهم أو خروجهم من السلطة.. حتي يتأكد الجميع أن هذا التكريم نابع من ضمير الشعب وبإرادته الكاملة وليس بالضغط السلطوي ومداهنة المنافقين. والآن يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا ذهب الملف بأكمله إلي القضاء ولم يذهب إلي الجهة الإدارية المختصة بتنفيذ إرادة الثورة وهي هنا حكومة الدكتور عصام شرف؟ و.. هل الذين حملوا القضية إلي المحكمة تسرعوا حقا وكان عليهم أن ينتظروا حتي تظهر خبايا النظام السابق كاملة بحيث لا يجد في النهاية من يدافع عنه أو يرفع لافتة باسمه.. وفي هذه الحالة يكون النظام السابق قد خنق نفسه بنفسه؟! والحقيقة أن ما حدث في هذه القضية يفتح عيوننا علي تخوف آخر أشد خطرا.. يتعلق بمطالب المعتصمين في ميدان التحرير بسرعة محاكمة رموز النظام.. وسرعة احالتهم إلي المحاكم للفصل في إلتهم الموجهة اليهم وإدانتهم حتي يراهم الناس في السجون أو معلقين في المشانق اذا استدعي الأمر. والتخوف هنا يأتي من هذه "السرعة" المتكررة التي يطالب بها المعتصمون.. فالمحاكمة في حد ذاتها مطلب مشروع وعادل ولكن "السرعة" في ذلك قد تدفعنا إلي ما لا يحمد عقباه. فربما أثرت هذه السرعة علي الحرفية في جمع الأدلة.. أو عدم الكفاية في حشد الوثائق والمستندات والشهود وكل ما يكفل محاكمة حقيقية وجادة وعادلة للمتهمين تضمن للمجتمع والشهداء والمصابين حقهم.. وتضمن ايضا للمتهمين حقهم.. وتعطي لمصر أمام العالم صورة ناصعة تستحقها. الحديث النبوي الشريف يقول إن المنبت "المتسرع" لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي.. بمعني أنه أفني دابته دون أن يصل إلي المكان الذي أراده من سفره.. ونحن نريد أن نصل إلي شاطئ الأمان والعدالة.. ونأخذ للمظلومين حقهم من الظالمين والفاسدين القتلة وهذا لن يتحقق إلا من خلال تحقيقات شاملة وعميقة ومحاكمات عادلة وحقيقية وجادة.. فأعطوا القضاء حقه حتي يأتي لكم بحقوقكم.