لم أحزن علي رحيل الفنان عمر الشريف إلا من زاوية واحدة هي التي تشغلني عادة حينما يموت إنسان كان ذات يوم ملءالسمع والبصر ثم انتهي وتساوي في الثري مع الملايين الذين لم نسمع عنهم ولم نرهم وتواروا في صمت.. الكلام يبدو غريبا فالأخبار والتعليقات التي توالت علي اثر شيوع نبأ الرحيل يوم الجمعة الماضية طافت كوكب الأرض عبر وسائل التواصل. وأدوات الميديا العالمية.. وأفلامه وأعماله وميراثه الفني عموما سيبقي شاهدا علي أنه كان هناك ممثل رجل وسيم موهوب. عشقته جميلات النساء الشهيرات والتقطته أساطين السينما الغربية العالمية إبان مرحلة مشهودة من مراحل الاشتباك بين الشرق والغرب فقد كان عمر الشريف هو المصري الكاثوليكي بتكوينه ولون بشرته وقسمات وجهه وجاذبيته الطاغية رجل شرقي الملامح. غربي الدراسة والهوي والتلوين وهو السينمائي بالفطرة. و"النموذجي" للجلوس تحت الأضواء. وهو أيضا المبهر في تميزه ومن ثم المقنع جدا في أعمال أمريكية وأوروبية وغربية تراها جماهيرالعالم عبر شرائط السينما باعتباره "الآخر" العربي "لورانس العرب" أو الروسي "دكتور زيفاجو" أو اللاتيني "جيفارا" أو العاشق المفتون بالحسناء اليهودية لا يخفي غرامه بها بعد حرب الخامس من يونيه مباشرة "فتاة مرحة" "1968". انه اللامنتمي عمليا وفنيا. المهووس بالشهرة والأضواء والنساء والخمر والميسر ومغريات الدنيا الزائلة.. ولكنه أيضا "المصري" الذي شرب حتي الثمالة من كئوس الدنيا بزينتها وغوايتها. وبهائها الظاهر الجذاب. وهو المصري الذي فتن نساء بني وطنه وبناته وحظي بالأكثر شهرة وحسنا بينهن جميعا وهو المصري في نفس الوقت الذي يحمل في جيناته أشياء لا تستبدل وتبقي في خزائن الذاكرة ومهجة الروح ساكنة مستقرة مهما مرت السنوات. وهو "الإسكندراني" من أصول شامية الذي يكن لمدينة الإسكندر الأكبر أحلي الصور. ولبعض شبابها حنينه الجارف. وحزنه الجارف أيضا عند فراقهم.. انه الممثل البهي الطلعة الذي ترك لنا صورا من أيامنا الحلوة ونهرا من الحب لفن السينما. وللحياة والعشق "المطلق" جداول رقراقة أمدت سنوات شبابنا بالزاد في أيام العطش والغيوم الغميقة. أنا لم أحزن علي فراق عمر الشريف وان قذف بي نبأ وفاته في خضم تيار من الخواطر. فقد رحل النجم الوسيم الذي صار عجوزا بحكم الأرقام. قبل أن تطوله "مرمطة" الشيخوخة وينهكه الضعف وتعاسة أرذل العمر. وقبل أن يصبح موضوعا للنميمة الرزلة ولفضول السفهاء في دنيا بائسة غرورة في نهاية عمر يظل قصيرا مهما طال. لقد حزنت كثيرا عندما كنت أقرأ عن توهان صاحب العينين الثاقبتين. وعن ضياع كبرياء النجم عندما يذله مرض النسيان اللعين "زهايمر". وقد إرتحت عند سماع رحيله حتي لا يكون عزيز قوم ذله الضعف والمرض وغروب الشمس ورحيل الصحبة وبدايات ما بعد الخريف وما بعد الشتاء وما بعد الضياع الكامل لكل ما كان وما خلناه مجدا وشهرة وأموالا. ذات مرة توقفت أمام لقاء عمر الشريف في هيئة انجليزية يقول فيه انه نادم لأن جميع أعماله لا ترضيه أو شيء بهذا المعني والمؤكد انه كان يشير إلي أعماله في السينما الغربية. كان الرجل فيما أتصور صادقا مع نفسه. و"الصدق" حسب ما لمسته في لقاءاته من خلال مرات قليلة جدا جمعتني به من بين سمات هذا "النجم" انه لا يكذب ولا يتجمل لأنه جميل ومقبول "بقلبه" ومن ثم صريح ومتحرر من ادعاءات "النجومية" ومن نفاق المشاهير. وبينما أتابع بعض ما كتب عنه بعد رحيله قرأت أنه منذ التسعينيات وهو يرفض ما يعرض عليه من أعمال معللا ذلك بأنه فقد احترامه لنفسه وكبرياءه.. ولكنه في عام 2003 وافق علي أداء بطولة فيلم فرنسي بعنوان "السيد إبراهيم وزهور القرآن" لعب فيه دور صاحب السوبر ماركت المسلم الذي يعيش في باريس ويتبني صبيا يهوديا من أهل الحي الذي يقيم فيه. وفاز عن هذا الدور بإحدي جوائز "سيزار" التي تعادل في فرنسا جائزة الأوسكار. كما حظي الفيلم نفسه ودوره فيه بترحاب نقدي وإشادة كبيرة فكل شيء في السينما الفلكية يبدأ "باليهود" وينتهي عندهم. وقد ملكوا السينما والإعلام والإعلان وأقاموا قلاعهم في هذا المجال الموقر وامبراطوريتهم الكبري الخاصة بهم بنوها في هوليود. لقد لعب عمر الشريف علي الشاشة شخصيات تاريخية خاصة من الشرق مثل شخصية جنكيز خان الامبراطور الدموي المغولي ولكن عمر نفسه قدم أقوي أفلامه الملحمية من خلال حياته الشخصية متعددة الوجوه والنشاطات والمليئة بالتشويق والإثارة وحالات الصعود والهبوط فكان أسطورة "كنجم" "مصري" ساحر لا يقاوم. ومقامر ولاعب "بردج" أسطوري. وضيفا "لقطة" علي موائد اللعب وزائرا مقيما أو جوالا في فنادق الغرب. وأعتقد أنه أدرك مؤخرا وبوعي "أكذوبة" الأضواء وفراغ الشهرة وحتمية زوال الثروة ومرارة الوحدة وكارثة المرض. رحم الله عمر بقدر صدقه مع النفس ومع الناس ومع نوع الحياة التي اختارها أو تلك التي فرضت عليه!!