أساء المسلمون المحدثون كثيراً إلي فكرة "الخلافة الإسلامية".. فقد تبني فريق منهم الدعوة لإحياء الخلافة باعتبارها فريضة لا يكتمل الدين إلا بها.. وخلط هؤلاء بين الخلافة كنظام سياسي والخلافة كمظهر للوحدة بين الدول والشعوب الإسلامية.. علي الجانب الآخر نبذ فريق من المسلمين أي كلام عن إحياء الخلافة.. واضطروا في سبيل ذلك إلي تجريح الخلافة والخلفاء.. ووصل الأمر ببعضهم إلي التطاول علي مقام الخلفاء الراشدين واتهامهم بالفاشية والاستبداد. والحقيقة أن الطرفين اتفقا معاً بدون توافق علي هذه الإساءة البالغة لفكرة الخلافة التي هي ليست أكثر من اجتهاد بشري لإقامة نظام سياسي يناسب العصر الذي قامت فيه.. ويناسب القيم الرفيعة التي جاء بها الإسلام الحنيف.. ويناسب أيضا الحلم بإقامة دولة فتية عظيمة واحدة تضم المسلمين جميعاً.. باعتبارهم أمة الإسلام. الخلافة الإسلامية إذن لم تكن ركناً من أركان الدين.. وإنما كانت اجتهاداً بشرياً.. وقد سمي أول حاكم لدولة الإسلام بعد النبي صلي الله عليه وسلم بالخليفة.. أي الذي خلف رسول الله.. وجاء بعده.. بينما سمي من جاء بعد أبي بكر بأمير المؤمنين تجنباً للتكرار الممل حينما يقال خليفة خليفة رسول الله. والخلافة نظام سياسي قائم علي البيعة.. أي موافقة الشعب.. وكان هذا النظام نقلة كبيرة في زمنه.. لأنه جعل الشعب مصدر السلطة.. بينما كان النظام السياسي في الأمم المجاورة يجعل السيف مصدر السلطة أو يجعل النسب في الملكية الرومانية هو مصدر السلطة.. وقد سقط نظام الخلافة في هذا المستنقع لسنوات عديدة عندما تحولت الخلافة من مفهومها الذي بدأ في سقيفة بني ساعدة بالمدينة المنورة إلي ملك عضوض تتوارثه الأسر في الدولة الأموية ثم العباسية ثم عصر الدويلات وانتهاء بالدولة العثمانية.. وكان هذا انحرافاً في نظام الحكم.. لكنه من جانب آخر كان تجسيداً لفكرة الوحدة الإسلامية. وقد كان واجبا لو استمرت قوة الدفع والإبداع التي بدأت بها الحضارة الإسلامية أن يجري تطوير فكرة الخلافة كنظام سياسي يقوم علي الشوري والمتابعة والمحاسبة.. لكن الجهد الفكري الإسلامي قصر عن ذلك.. وتجمد.. بل إنني أراه تراجع وتخلف بالصمت عن التحول إلي الملكية الأسرية.. ولو حدث ذلك التطوير فقد كان من المحتم أن نصل إلي الديمقراطية الحديثة كنظام سياسي.. وهي المحطة التي وصلت إليها الحضارة الإنسانية بعقول غيرنا.. ولابد أن نعترف بأنها الأكثر نضجاً وتفتحاً. والديمقراطية الحديثة بآلياتها المعروفة هي الأخري محطة مهمة في مسار تطوير النظم السياسية.. والله وحده يعلم ما الذي سيصل إليه العقل الإنساني في هذا المسار خلال السنوات والعقود والقرون القادمة.. والإسلام لا يقف ضد التطور الفكري والإبداع العقلي في أي مجال.. فما بالك بمجال الحكم والسياسة. والشريعة الإسلامية تزن الأمور بميزان "المقاصد".. فما رآه المسلمون حسناً فهو حسن.. وأينما تكون مصلحة الناس فثم وجه الله.. وقياساً علي ذلك فإذا كانت الديمقراطية تحقق مبادئ الشوري والعدالة والمساواة والحرية وتضع الضمانات للحفاظ علي الكليات الخمس "الدين والنفس والعرض والعقل والمال" فإنها تصبح البديل العصري المناسب للخلافة.. خصوصاً أننا في زمن ضعف فيه الوازع الديني ولم يعد لدينا يقين بأننا سنعثر علي الشخص الذي يحكم متفرداً وتجتمع في يديه كل السلطات باعتباره أمير المؤمنين وهو محصن ضد الفساد والاستبداد كما كان الخلفاء الأولون. أما عن الوحدة الإسلامية التي تحققها الخلافة فلابد من الاعتراف بصعوبة بل استحالة تحقيقها بالشكل التقليدي القديم في ظل الدولة الوطنية الحالية.. وإنما يمكن أن تتحقق علي طريقة الاتحاد الأوروبي علي مراحل متأنية وناجحة.. إذا توافرت الإرادة السياسية لذلك. وفي النهاية.. لابد أن تكون الديمقراطية هي الحل.. وليس الخلافة التي تجاوزها الزمن.