كنت أقف في الفراندة الكبيرة مربعة الشكل شديدة الاتساع والمطلة علي حارة محسن. أطل منها وأحد بصري إلي أبعد حدود الرؤية في آخر الحارة. استنشق رائحة درب الجماميز بأريج عطرها وعبق زمانها المولي.. ورائحة البخور النفاذة تحملها طيات الهواء. فتتنسمها النفس والروح.. ويصعب أن تجدها في مكان آخر.. كان الظل متثاقلاً فبدت الرؤية في الخارج. حيث الشمس الساطعة أكثر وضوحاً لكن جو الفراندة كان أكثر ارتياحاً.. وكان محدثي ذلك الصديق القديم الذي أعرفه معرفة وثيقة.. ولكن اسمه غاب عن ذهني برهة.. وأجهدت نفسي في محاولة التذكر وهو يضاحكني ويهزل معي بود شديد. كأننا لم نفترق لحظة. كنت مازلت أطل متأملاً من محوري داخل الفراندة.. بينما كان باب الفراندة خلفي مفتوحاً.. وذلك عندما التفت إلي الوراء. في اللحظة التي تذكرت فيها أن صديقي هو ممدوح.. وفوجئت أن هناك بضع فتيات أو نساء صغيرات لا أدري.. يقفن عند مدخل الفراندة.. وكلهن يتطلعن إلي باسمات مشرقات الوجوه.. ولا تخلو ابتسامتهن من تساؤل. قلت لهن بتلقائية شديدة. كيف حالكن... ضحكن.. واحدة منهن شدتني إليها نظراتها شديدة الافتتان. كانت تتطلع إلي بوله وفي عينها الجميلتين. شبه النائمتين. تساؤل ونداء ورغبة وحنين مكبوت.. وصرخات تكاد أن تنطلق معبرة عن حالها. في لمحة واحدة أحسست أني أعرفها منذ زمن بعيد. بينما التساؤل في عينيها اللتين تقولان.. "ألا تعرفني؟!!" نعم.. نعم تذكرتك يا فاتنة الزمن البعيد.. وملهمة الأيام الممولية.. "مديحة أخت ممدوح.. أليس كذلك..؟ "أجبت في داخل نفسي وظلت إجابتي مكتومة.. بينما نظرتي الحانية تحتويها وتضمها.. وتحتضنها. سألتها وأنا أخصها دون الأخريات "كيف حالك.." "أومأت برأسها وازدادت ابتسامتها اتساعاً علي شفتيها.. وأيضا الآخريات. أسرع ممدوح يوضح لي "أنها أختي أم إسلام" قلت ضاحكاً في محاولة مني لجعل دائرة الحديث أكثر اتساعاً "وكيف لا أعرفها؟!!" وسرحت قليلاً في مديحة التي أصبحت أم إسلام.. وتساءلت في دهشة بيني وبين نفسي "متي؟ وكيف حدث ذلك. كان ممدوح في العشرين.. وكنت أكبره بعامين. بينما كانت مديحة تصغره بعام.. وكان بيننا حب جارف وعاطفة جياشة.. وكنا معا في كل الأوقات. لا نفترق أبداً. حتي كان ذلك اليوم الذي داهمتنا فيه أم ممدوح في بئر السلم ونحن متعانقين. يومها ثارت أم ممدوح ثورة عارمة. إلا أنها عندما واجهتني كانت شديدة التعقل.. وراحت توضح لي مكامن الخطأ والخطر فيما نفعله.. خاصة وأني مازلت طالب علم وأمامي سنوات طويلة حتي أنتهي من ذلك.. بينما كانت مديحة فتاة صغيرة وسمعتها معرضة للتشويه. عندما تلوكها الألسن وتتحدث عنها بالسوء .. وسألتني يومها إن كنت أرضي بذلك لواحدة من أخواتي.. وكانت مديحة بمثابة الأخت لي.. ولا يقل شأنها بحال من الأحوال عن واحدة من أخواتي. يومها لم أجد ما أقوله لأم مديحة.. وفررت من أمامها. كانت مديحة ماتزال تلفني بنظرتها الولهة. وكأنها تستعيد أطياف الماضي.. بينما كنت أتطلع إليها في شوق. وعدت أقول لممدوح "وكيف لا أعرف مديحة يا ممدوح؟! ثم أردفت وأنا أتطلع إلي الآخريات "وكيف لا أعرفهن جميعاً..؟ أليسوا هن بنات الحارة التي عشت فيها أحلي سنوات الصبا والشباب؟" وانسحبت احداهن من لسانها وكانت أقلهن حسناً وأثقلهن ظلاً.. وقالت شبه مستنكرة "متي عرفتنا وكيف..؟" "ونحن لم نرك من قبل؟!.. رحت أرد علي استنكارها لي باستنكار مضاد وفي شبه مزاح.. بينما ممدوح يتأمل ما يدور وأمامه في سعادة وعيناي علي مديحة.. ماذا تقولين يا هذه. إنني ربما كنت قد عشت في الحارة أكثر مما عاشت أي منكن. رغم أنها لم تغادرها قط "ثم استطردت في زهو" انني من مواليد الحارة.. لقد ولدت وعشت حياتي فليها. وفي هذا البيت تحديداًَ.. ثم استطردت مرة أخري "منذ ستين عاماً".. وفي هذه اللحظة تناهي إلي سمعي صوت المخرج وهو يصيح "ستوب" وسرعان ما توقف كل شيء "المونوتور".. وآلات التصوير.. وتجمدت الصورة. افتقدت الصوت والحركة والحياة التي كانت تدب فيها منذ قليل.