لمصر أبعاد إقليمية أربعة تتمثل فيها أبعاد شخصيتها كأكمل ما يكون.. بعدان قاريان "الافريقي والآسيوي" وبعدان إقليميان "النيلي والمتوسطي" وحتي العصور الوسطي كان البعد المتوسطي هو مركز الثقل في توجيهها.. ثم استدار مركز الثقل مع عقارب الساعة إلي البعد الآسيوي بعد الإسلام.. مثلما يستدير اليوم قليلا في نفس الاتجاه نحو البعد الافريقي. يقول د. جمال حمدان في موسوعته الخالدة "شخصية مصر": إذا كانت مصر افريقية بأرضها ومائها فإنها قوقازية بجنسها ودمائها.. والمصريون بهذا المعني أنصاف أو أشباه أوروبيين.. هي إذن قطعة من افريقيا ولكنها بضعة من أوروبا.. في أفريقيا وليست منها.. ومن أوروبا وليست فيها.. غير أنها إلي ذلك آسيوية التوجيه والتاريخ والتأثير والمصير.. انها بآسيا وإليها.. وفي المحصلة الصافية فإن مصر نصف أوروبية.. ثلث آسيوية.. سدس افريقية.. وفي داخلها تبدأ أوروبا عند الإسكندرية.. وآسيا عند القاهرة.. وافريقيا عند أسوان. ورغم أن تعدد هذه الأبعاد وتداخلها يعني تعدد الجوانب وثراء الشخصية إلا أن د. حمدان يؤكد أن مصر تظل في التحليل النهائي وفي نواتها الدفينة هي مصر.. مصر العربية فقط ودون ازدواجية.. نعم هي فرعونية بالجد.. لكنها عربية بالأب.. غير ان كلا الأب والجد من أصل مشترك ومن جد أعلي واحد.. فعلاقات القرابة والنسب متبادلة وسابقة للإسلام بل وللتاريخ.. وما كان الإسلام والتعريب إلا إعادة تأكيد وتكثيف وتقريب.. فلا تعارض بين المصرية والعربية.. وإنما هما اللحمة في نسيج قومي واحد. ومنذ آلت إليها زعامة العالم الإسلامي أصبحت مصر خير تجسيد لهذا العالم.. لأنها الوحيدة تقريبا التي تتمثل فيها معظم العناصر الجنسية والجاليات الوطنية من جميع الأقطار والشعوب العربية.. وتحقق بذلك نموذج وأمل الوحدة العربية.. ولأنها بالحجم والموقع هي الرأس والقلب وضابط الايقاع.. انها في العالم العربي كالقاهرة في مصر نفسها.. أم العرب أكثر منها ابنتهم.. انها مرآة العالم العربي التي يستطيع أن يري فيها صورته المستقبلية. وكما تم تعريب مصر في عصر الإسلام فقد شهد عصر البترول تمصير العرب من خلال الوجود المصري العلمي والثقافي والسياسي في البلدان العربية.. والواقع أن مصير العرب مصري حضاريا كما ان مصير مصر عربي سياسيا.. ومصر لا مستقبل عالمي لها خارج العرب.. مصر محكوم عليها بالعروبة والزعامة ولا تستطيع أن تنسحب من عروبتها حتي لو أرادت. وهكذا يحسم د. حمدان مسألة عروبة مصر من زاوية التاريخ ومن زاوية الهوية والانتماء.. لكنه يربط زعامة مصر وعروبتها بقيادة العالم العربي لتحرير فلسطين من النهر إلي البحر مؤكدا أنها لو تقاعست عن ذلك فقد حكمت علي نفسها بالإعدام والانتحار.. والواضح أنه ركز علي هذه النقطة متأثرا بمعارضته الشديدة لمعاهدة كامب ديفيد واتفاقية السلام اللتين وقعهما السادات مع إسرائيل في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.. أضف إلي ذلك إشارته إلي أن حجم مصر بين العرب مهدد بالتضاؤل النسبي في عصر البترول الخرافي. يقول: لقد خلق البترول العربي نمطا جديدا من توازن القوي السياسية داخل العالم العربي.. وهذا الاختلال أثار وعري كل كوامن الحساسيات الوطنية بين العرب.. حتي ليوشك أن يتحول إلي عامل تفريق وتمزيق للعرب. وأكمل غدًا إن شاء الله.