في أحد الأيام كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يمشي بالطريق ومعه أحد الرفقاء. فشاهدته امرأة عجوز فنادته وقالت بأعلي صوتها: اتق الله يا عمر. وأخذت تسرد بعض الجوانب المتعلقة بشئون حياته منذ شبابه. فأنصت إليها بكل اهتمام وتقدير أثار اهتمام مرافقه وكان بينهما هذا الحوار: - من هذه المرأة العجوز يا أمير المؤمنين؟ - ألا تعرفها؟ - أبداً. - إنها خولة بنت ثعلبة. - ولماذا تكلمك بهذا الأسلوب ولماذا تنصت إليها؟ - ماذا تقول يا رجل. إنها خولة بنت ثعلبة التي كلمها الله من فوق سبع سماوات في قضية خلافها مع زوجها حين قال لها أنت عليَّ كظهر أمي. فكيف يكلمها الله ولا ينصت إليها عمر؟ لها كل التقدير والاهتمام والاستماع إلي نصحها. - لقد عرفت وزادك الله سعة في الصدر وقوة في ثبات اليقين ونوراً نستضيء به في حياتنا وسماحة في التعامل وتقدير الذين يريدون لك الخير. تلك هي سماحة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وسلوك يؤكد أن المسلم صحيح الإيمان إنه بحق نموذج وقدوة لكل الأجيال في كل مكان وعلي مدي الإيمان. وهذا التصرف من جانب عمر بن الخطاب يوضح بما لا يدع مجالاً لأي شك أن عمر لم يغتر بأنه أمير المؤمنين. ولم يتعال علي هذه العجوز الطاعنة في السن. وبكل التواضع تقدم نحوها واستمع إليها كما تشير ايضا إلي أن لكل إنسان قدره وفقاً لتاريخه وخبرته وعمله الصالح فخولة بنت ثعلبة نزلت في حقها الآيات الأولي في سورة المجادلة "لقد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلي الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير" "1" المجادلة. وهاهو الصديق أبوبكر الخليفة الأول لسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم حين تم اختياره خليفة ليتولي إدارة شئون الأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم تحدث إلي جموع المسلمين قائلاً: أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتموني علي حق فأعينوني وإن رأيتموني علي باطل فقوموني. اطيعوني ما أطعت الله فيكم. وإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". بعد أن انتهي أبوبكر الصديق من كلامه قام عمرو بن الجموح معقباً علي خليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: "والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا". فقال الصديق: "الحمد الله الذي جعل في أمة محمد صلي الله عليه وسلم من يقوم أبابكر بن أبي قحافة بسيفه". إنها بحق صورة تكشف مدي سلوكيات وتعامل الخليفة الأول. الخلق الحسن الذي تجلي في رده. حيث لم يضق صدره. ولم تبد عليه علامات الغضب. من ابن الجموح الذي خالفه الرأي. بما يتضمن أن المسلم صحيح الإيمان لا يغضب ولا يضيق بالرأي الآخر. تعامل في غاية الرقي والحضارة من الخليفة وأحد الرعايا. مما يضع أمام الأمة القدوة والنموذج. وبهذا الأسلوب وتلك السلوكيات نهضت الأمة الإسلامية وقدمت للعالم صورة طيبة ورائعة في الحوار الذي اتسم بالعلاقة الممتازة بين الحاكم والمحكوم. مما يشير إلي دحض الافتراءات التي يثيرها من في قلوبهم مرض ضد الإسلام والمسلمين. ويقدم في نفس الوقت نموذجاً لأجيال هذا الزمان من الشباب من الجنسين لكي يمضي أبناء العالم الإسلامي علي هذا المنهج الإسلامي. هذان النموذجان اللذان أشرت إليهما وحرصت علي تسجيلهما لكي ألفت أنظار بعض الذين ينتمون إلي الطوائف والجماعات من السلفيين وغيرهم أن مهمة المسلم هي السماحة والحكمة في التصرف وأن يضع نصب عينيه دائماً قول الله تعالي: "ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" النحل. ولا ينبغي أبداً أن يقدم أي فرد من هذه الجماعات علي عمل وتنفيذه بالقوة والعنف زاعماً أنه يطبق منهج الله وشريعته. وليدرك أي عضو من هذه الطوائف أن من يريد الإقدام علي أي عمل فبأسلوب طيب ولين في القول وتوضيح رؤيته بوسطية واعتدال. ولا يجب أن يغيب عن هؤلاء أن رب العالمين عز وجل حين أرسل موسي وأخاه هارون إلي فرعون قال لهما: "قولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشي" طه. الإقناع بعبارات طيبة وكلمات تنفذ إلي القلب. وليدرك هؤلاء احترام الإنسان حياً وميتاً من السلوكيات الطيبة ولا يجب أن نتجاهل هذا المبدأ. فالهجوم علي الميت في قبره يتنافي مع القيم الإسلامية التي ترعي حرمات الموتي. أعتقد أن الأمر يتطلب الالتزام بالمنهج الذي رسمه لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم. فقد وقف صلي الله عليه وسلم حين مرت أمامه جنازة تقديراً لمكانة هذا الميت دون أن يعرف ديانته. وحينما حاول أصحابه أن يلفتوا نظره بكل احترام قائلين يا رسول الله: إنها جنازة يهودي. فقال لهم معلماً وموجهاً: أليست نفساً؟! إنها صورة رائعة ونموذج علينا جميعاً الالتزام به في حياتنا وتعاملنا. "إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد".