خلال النصف قرن المنقضى أو الفترة من 1965- 2015 تراجعت أهمية الزراعة فى الاقتصاد المصرى بشكل كبير ، إذ كانت حتى حقبة الستينات تمثل العمود الفقرى للاقتصاد المصرى ، أما الآن أى فى 2015 فقد تضاءل وضعها اقتصاديا وإن كانت ما زالت تحفتظ بأكبر كتلة سكانية . فنصيبها فى الناتج المحلى الإجمالى الكلى كان يتجاوز 30% ويشتغل بها أكثر من نصف القوة العاملة الكلية ، ويرتبط بها بصورة مباشرة (زراعيين) أو غير مباشرة (ريفيين غير زراعيين) نحو 70% من السكان المصريين آنذاك ، وكانت الصادرات الزراعية تمثل الجزء الأكبر فى الصادرات المصرية الكلية والمكون الرئيسى فيها القطن المصرى عالمى الشهرة والذى كان يمثل أكثر من ثلث الصادرات العالمية من الأقطان الطويلة الممتازة، وكانت مصر مكتفية ذاتيا من القمح واغلب المنتجات الزراعية الغذائية . أما فى الوقت الراهن أى بعد نحو نصف قرن من الزمان فقد تراجعت أهمية الزراعة فى الاقتصاد المصرى بشكل كبير ، فنصيبها فى الناتج المحلى الإجمالى الكلى تراجع إلى 13% وتراجع نصيبها فى تشغيل القوة العاملة إلى 25% وتراجع نصيبها فى الصادرات الزراعية إلى 20% وانخفضت نسبة السكان الريفيين إلى 56% من السكان المصريين.العوامل الكامنة وراء هذا التراجع كما سيتضح تاليا تؤشر إلى استمرارها خلال الخمسين القادمة أى الفترة 2015- 2065 يضاف إليها عوامل أخرى تؤشر إلى اختفاء الزراعة التقليدية المستهلكة للمياه ،والاكتفاء بمزارع الدواجن والمزارع الحيوانية التجارية المعتندة على المستلزمات المستوردة بحانب الزراعات المحمية. الأسباب وراء هذا التراجع الكبير فى أهمية الزراعة عديدة من أهمها العوامل الثلاثة الآتية ، الأول ، يتعلق بتطور علاقة السكان بالموارد الفيزيقية وخاصة المياه والأرض ، وثانيها يتعلق بالسياسات الاقتصادية التى تم تبنيها خلال النصف قرن المنقضى ، وثالثها يتعلق بطبيعة القطاع الزراعى ذاته وتباين معدلات النمو بين الزراعة والقطاعات غير الزراعية. وقبل المضى قدما فى تفصيل هذه العوامل تجدر الإشارة إلى أن هذا التراجع يعد بمثابة تخارج تدريجى لقطاع الزراعة من الاقتصاد الكلى فقد فقد ثلثى نصيبه فى الناتج المحلى الإجمالى الكلى خلال الخمسين عاما الماضية . وبالنسبة للعلاقة بين عدد السكان من جانب والأرض الزراعية والمياه من جانب آخر ، فقد أسفر تطورها خلال النصف قرن الأخير عن اختلال كبير فيها بالنظر إلى التزايد السكانى المستمر بعدلات تجاوزت 2.5% سنويا وفى المقابل الثبات النسبى فى مساحة الأرض الزراعية والثبات المطلق فى حصة مصر من مياه النيل التى تشكل 95% من الموارد المائية لمصر. وتوضح سلسلة تعدادات السكان فى مصر أن سكان مصر تضاعف عددهم لأول مرة خلال خمسين عاما من 1897 إلى 1947 حيث إرتفع عددهم من9.7 مليون نسمة إلى مايزيد على 19 مليون نسمة خلال الفترة بين التعدادين ، وتضاعف عددهم مرة ثانية خلال ثلاثين عاما من 1947 إلى 1976 ثم تضاعفت للمرة الثالثة فى فترة الثلاثين عاما الأخيرة حيث إرتفع عدد السكان من 36.6 مليون نسمة فى تعداد 1976 إلى 72.8 مليون نسمة فى تعداد 2006 الأخير.وفى عام 2016 بلغ عدد السكان 92 مليون نسمة.أما الأرض الزراعية فقد زادت مساحتها من 6 مليون فدان فى الستينات إلى 8.7 مليون فدان غى الوقت الراهن ، مما أدى اتناقص نصيب الفرد من السكان من الأراضى الزراعية من 0.2 فدان فى الستينات إلى 0.1 فدان حاليا وهو الأقل فى العالم . وبالنسبة للمياه فقد ظلت حصة مصر من مياه النيل ثابتة عند 55.5 مليار متر مكعب سنويا ، وذلك يعنى تناقص نصيب الفرد المصرى من المياه من نحو 1600 متر مكعب سنويا فى عام 1966 (حيث بلغ عدد السكان أنذاك 35 مليون نسمة ) إلى 600 متر مكعب سنويا فى عام 2016 (حيث عدد السكان 92 مليون نسمة ) . وبالنسبة للسياسات الاقتصادية المتبناة خلال العقود الخمسة الماضية ، فقد كرست هذه السياسات تهميش الزراعة بتحيزها لصالح القطاعات غير الزراعية سواء من حيث المخصصات الاستثمارية ، فلا يتجاوز نصيب الزراعة فى الانفاق العام 3% أو من حيث إهمال السياسات الزراعية للبحوث والإرشاد الزراعى والتمويل والتسويق والمؤسسات والتشريعات الزراعية.وفى ظل هذه السياسات أصبح القطاع الزراعى طاردا للاستثمارات والعمالة ،لاسيما فى ظل العامل الثالث المتعلق بطبيعة وخصائص القطاع ومشكلات تفتت الحيازات الزراعية وارتفاع نسبة الأمية وانتشار الفقر الريفى ،وتمخضت هذه العوامل مجتمعة عن انخفاض معدل النمو الزراعى عن معدلى النمو فى قطاعى الصناعة والخدمات ، ففى عام 2010 وقبل ثورة يناير مباشرة لم يتجاوز معدل النمو فى القطاع الزراعى 3% فى الوقت الذى بلغ فيه معدل النمو الاقتصادى العام (متوسط معدلات النمو فى قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات) نحو 7% سنويا.هذا التباين فى معدلات النمو ساعد على استمرار وتكريس الفجوة الدخلية بين الريف والحضر ،ومن ثم انتشار الفقر فى الريف بمعدلات أعلى من نظيراتها فى الحضر.
لم تعد الزراعة إذن قطاعا جاذبا للاستثمار اللهم إلا بالنسبة للزراعات التصديرية المتخصصة فى الأراضى الجديدة وبخاصة زراعات البطاطس والخضر والموالح ، وهذه الزراعات تستخدم جزءا ضئيلا من الموارد الزراعية لا تتجاوز نسبته ما يتراوح بين 5-10%.أما الشطر الأعظم من القطاع فتسوده المزارع الصغيرة والقزمية التى تنتج أساسا للاستكفاء الذاتى العائلى ، وهى من ثم تعمل خارج الإطار الاقتصادى للربط الكفء للموارد ، وعلاقتها بالسوق تنحصر فى بعض الفوائض التسويقية الضئيلة من المحاصيل التقليدية تباع بغرض توفير الدخل النقدى اللازم لتغطية الاحتياجات الاستهلاكية العائلية بجانب الدخل من العمل الأجرى.فى المجمل ، القطاع الزراعى المصرى ، فى ظل هذه الظروف ، ليست لديه مرونة التوسع والنمو الاقتصادى على النحو الذى لدى قطاعى الصناعة والخدمات ،وإنما بالأحرى هو قطاع يصطبغ بالصبغة الاجتماعية ويلبى أهدافا اجتماعية كالأمن الغذائى ومحاربة الفقر والتشغيل والاستقرار.ولأن الاقتصاد المصرى يقوم على اقتصاد السوق والذى تلعب فيه التنافسية والمنافسة السعرية الدور الأهم فإن انخفاض تنافسية الزراعة وضعف علاقتها بالسوق للأسباب التى ذكرناها ،أمر يعمل على زيادة تهميشها خاصة مع ضعف السياسة الزراعية وانعدام الدعم الحكومى للزاعة على النحو الذى فصلناه سلفا. مما كرس عوامل الطرد ورفع معدلات التخارج.
* أستاذ الاقتصاد الزراعى – كلية الزراعة – جامعة القاهرة