الموقف الأخير الذي أعلنته الجامعة العربية تجاه النظام السوري، موقف غير مسبوق، ويستحق التوقف عنده ومناقشته، ورغم أن الانطباع الثابت في عقول ونفوس الشعوب العربية جميعًا عن الجامعة العربية هو أنها كيان عاجز ومكبل ولا يستطيع ولا يملك المبادرة والحل واتخاذ المواقف القوية، إلا إن موقفها من الثورة السورية ومن نظام البعث السوري، هو موقف لم يسبق للجامعة أن اتخذته من قبل. فقد أعلنت الجامعة عن مبادرة جديدة من أجل التوصل إلى حل للأزمة السورية، تقوم هذه المبادرة على عناصر أساسية، أبرزها بدء حوار سياسي جاد يجمع الحكومة السورية وكافة أطياف المعارضة السورية في أجل لا يتجاوز أسبوعين من تاريخ القرار. فالجامعة العربية أصبحت تدرك ألاعيب نظام بشار، ولذلك تحدثت عن حوار وطني يشمل المعارضة السورية، وعلى رأسها المجلس الوطني الانتقالي، كما وضعت الجامعة مهلة محددة حتى لا يتلاعب بشار بالحوار كما يريد. والحوار الذي تطالب به جامعة الدول العربية يجب أن ينتهي إلى نتائج محددة، أهمها تشكيل حكومة وحدة وطنية في أجل لا يتجاوز شهرين، بمشاركة من السلطة والمعارضة، على أن يتولى رئاستها شخصية متفق عليها، تكون مهمتها تطبيق بنود خطة الجامعة العربية، والإعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية تعددية حرة، بموجب قانون ينص على إجراءاتها، بإشراف عربي ودولي. وطبعًا هذا كلام يزعج بشار ونظامه تمامًا. كما لابد أن ينتهي الحوار إلى تفويض رئيس الجمهورية نائبه الأول بصلاحيات كاملة، للقيام بالتعاون التام مع حكومة الوحدة الوطنية لتمكينها من أداء واجباتها في المرحلة الانتقالية. أي أن المطلوب هو تنحي بشار على غرار ما حدث لعلي عبد الله صالح في اليمن. ولابد أيضًا أن ينتهي الحوار إلى إنشاء هيئة مستقلة مفوضة للتحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المواطنون، والبت فيها وإنصاف الضحايا. ثم قيام حكومة الوحدة الوطنية بالإعداد لإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية، على أن تكون شفافة ونزيهة برقابة عربية ودولية، وذلك خلال ثلاثة أشهر من قيام حكومة الوحدة الوطنية، وتتولى هذه الجمعية إعداد مشروع دستور جديد للبلاد يتم إقراره عبر استفتاء شعبي، وكذلك إعداد قانون انتخابات على أساس هذا الدستور. وعليه، فإن مبادرة الجامعة العربية ببنودها المختلفة، تؤسس لما بعد بشار ونظامه، والبنود كلها مصاغة على أساس إنهاء حكم البعث، وإذا استطاع النظام أن يتلاعب بشأن بند معين فسوف يسقط في شرك باقي البنود. ولذلك فقد كان رد النظام السوري الذي جاء على لسان وزير خارجيته وليد المعلم ووصفه مبادرة جامعة الدول العربية بأنها "مخطط خارجي" يستهدف سوريا، وبأن نظامه يرفضها، كان ردًا متوقعًا من نظام بائس يعيش أيامه الأخيرة، ويشعر بأن أكاذيبه لم تعد تنطلي على الناس في الداخل والخارج. العجيب أن وليد المعلم يؤكد أنه لا حلول عربية بعد اليوم لتسوية الأزمة السورية، (وكأن الجامعة كانت تتدخل وتحل قبل ذلك)، وأن الحل سيكون سوريًّا يقوم على برنامج الإصلاح الشامل الذي أعلنه بشار الأسد، وأن سوريا كانت تدرك أن ما تضمنه تقرير بعثة المراقبين العرب بشأن الأزمة في سوريا لن يرضيَ بعض العرب الذين اتهمهم بتنفيذ مراحل المخطط الذي اتفقوا عليه في الخارج ضد سوريا، لأن ما تضمنه تقرير بعثة المراقبين يثبت التزام الحكومة السورية بخطة العمل العربية. وليد المعلم يتحدث عن دستور جديد سيعرض على الاستفتاء الشعبي خلال أسبوع أو أكثر بقليل، إضافة إلى مؤتمر لحزب البعث سيكون مفصليًا، وحكومة موسعة يشارك فيها مختلف أطياف الشعب وخاصة الشباب، وكذلك انتخابات برلمانية حرة ونزيهة. أي أن نظام البعث يريد استباق الخناق الدولي بخطط وهمية وبإنجازات إعلامية وبانتخابات مزورة، ونسي أنه لا الجامعة العربية ولا القوى الدولية ستسمح بذلك مرة أخرى. الملاحظ أن وزير خارجية بشار كان يتحدث بثقة نابعة من أن نظام البعث في منأى عن أي محاسبة دولية على جرائمه بحق الشعب السوري، لأن روسيا لن تقبل بأي تدخل أجنبي في سوريا، على حد تعبير الوزير. إن الدعم الذي قدمته روسيا إلى سوريا لم يقتصر على غض الطرف عن دماء آلاف المدنيين العزل، أو استخدام الفيتو ضد قرار حول النظام السوري في مجلس الأمن، بل تخطى ذلك إلى إرسال مساعدات عسكرية لنظام الأسد ليستخدمها في سحق حركة الاحتجاجات ضده. الأمين العام للجامعة العربية د. نبيل العربي، يبدو أنه أصبح متيقنًا أن مجلس الأمن لن يستطيع اتخاذ قرار حاسم بشأن الأوضاع في سوريا، بسبب معارضة روسيا والصين، ولذلك فقد طلب من ورئيس الوزراء وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم آل ثاني بأن يعقد اجتماعًا مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من أجل الحصول على دعم مجلس الأمن الدولي للخطة العربية لإنهاء الأزمة في سوريا. أي أن الجامعة العربية تريد أن تكون قراراتها مؤيدة من الأممالمتحدة ومجلس الأمن، بحيث يكون رفض نظام بشار التعاطي معها ليس رفضًا لقرارات الجامعة فقط، ولكنه في هذه الحالة يكون رفضًا لقرارات دولية أيضًا، مما يضع النظام السوري في مواجهة المجتمع الدولي كله. كثير من دول العالم ترى أن المبادرة العربية الجديدة تشكل تغيرًا في قواعد اللعبة بالنسبة لمجلس الأمن الدولي، ومطالبة الجامعة العربية لمجلس الأمن بتأييد مبادرتها، لا يمكن لأعضاء المجلس تجاهله أو رفضه بسهولة. وإذا ما تم اعتماد قرارات الجامعة العربية وتأييدها من مجلس الأمن، فإن النظام السوري سوف يكون قد تم عزله بشكل كبير، ولن تستطيع روسيا أن تتحدى العالم كله إلى ما لا نهاية. ولعل التراجع النسبي في الموقف الروسي المؤيد لنظام بشار قد بدأ بإعلان المسئول الروسي الكبير ميخائيل مارجيلوف، وهو مشرع بارز والمبعوث الخاص للرئيس الروسي ديمتري مدفيدف إلى أفريقيا أن "روسيا لا يمكنها عمل المزيد للرئيس السوري، فروسيا لم يعد في جعبتها شيء على الصعيد الدبلوماسي بشأن سوريا، واستخدامنا لحق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن الدولي كان آخر أداة للسماح للرئيس بشار الأسد بالحفاظ على الوضع القائم على الساحة الدولية، هذا الفيتو استنفد ما في جعبتنا من مثل هذه الموارد، وينبغي على الرئيس السوري أن يقرأ هذا الموقف بوضوح.. الإصلاحات وإنهاء العنف والانتخابات الحرة.. هذا هو ما ينبغي أن تفعله القيادة السورية فورًا اليوم". وقد تفاعلت الصحف العالمية الكبرى مع المبادرة العربية الجديدة ودعوتها الرئيس السوري إلى التنحي، في أعقاب فشله في الامتثال لبنود خطة عربية لوقف العنف وإيجاد مخرج للأزمة في سوريا. فقالت مجلة "تايم" الأمريكية: إن جامعة الدول العربية التي طالما وصفت بأنها غير فاعلة، كشرت عن أنيابها أخيرًا في وجه النظام السوري، وأطلقت مبادرة تشكل خطة عمل جريئة لحل الأزمة السورية. أما صحيفة "واشنطن بوست" فقد توقفت أمام دعوة جامعة الدول العربية الرئيس السوري إلى التنحي وتسليم السلطة إلى نائبه، في خطة عربية لنقل السلطة في سوريا بطريقة تشبه ما جرى في اليمن. إن روسيا تراهن على أن الإصلاحات الداخلية يمكن أن تنقذ بشار ونظامه، ولكن هل يستطيع نظام البعث القيام فعلًا بإصلاحات حقيقية تنجيه من النهاية المحتومة؟ المنطق يقول: إن فاقد الشيء لا يعطيه، وخبرة التاريخ تؤكد لنا أن المستبدين والطغاة لا يمكنهم أن يقيموا نظمًا ديمقراطية حرة ومفتوحة. فالذي نشأ على أن يكون هو مصدر السلطات الوحيد لا يمكن أن يترك هذه السلطة للأمة لكي تكون هي مصدر السلطات. والذي اعتاد أن يجري انتخابات مزورة لا يمكن أن يتركها لتكون حرة وتأتي بمن يجبرونه على فعل ما يكره. والذي اعتاد أن يطلق زبانيته لاعتقال الناس وسحلهم وقتلهم لا يمكن أن يأتمنه الشعب على أي وعد. وخلاصة القول: إنه لا يمكن تصور أن أي ديكتاتور قاتل ومتورط في دماء شعبه يمكن أن يسمح بإقامة نظام سياسي ديمقراطي صحيح يتيح للشعب ومؤسساته السياسية والقضائية أن تقتص لدماء الشهداء، لأن الثمن هو رقبة المجرمين واللصوص، وعلى رأسهم المجرم الأكبر واللص الأمهر، والمنطق يقول: إن الإنسان لا يمكن أن يصدر بنفسه قانونًا يودي به إلى حبل المشنقة. الضغط الغربي على نظام البعث أسفر عن لائحة جديدة للعقوبات اعتمدها الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي ضد النظام السوري، شملت خمسة مصارف سورية وثلاث شركات نفطية إلى جانب 22 شخصًا معظمهم أعضاء في أجهزة الأمن ومتورطون في توقيف وتذيب السجناء. ويرى الاتحاد الأوروبي أن المصرف الصناعي وبنك التسليف الشعبي والمصرف الزراعي التعاوني ومصرف التوفير وكذلك فرع من المصرف التجاري، كلها مصارف متهمة بأنها ساهمت في تمويل النظام. كما أن الشركات النفطية، مثل شركة دير الزور للنفط وشركة ايبلا للنفط وشركة دجلة للنفط أُدرجت أيضًا على اللائحة بسبب دعمها المالي لنظام الأسد. وسبق أن فرض الاتحاد الأوروبي حظرًا على مبيعات الأسلحة، وكذلك منع استيراد النفط السوري، والقيام باستثمارات جديدة في القطاع النفطي في هذا البلد. وتزامنت آخر سلسلة عقوبات أوروبية مع عقوبات أمريكية، في مطلع ديسمبر الماضي، تناولت منع تصدير معدات مخصصة لصناعة الغاز والنفط، وبرامج معلوماتية تتيح مراقبة اتصالات الإنترنت والهاتف، إلى سوريا. لكن المخاوف تتمثل في أن يستطيع النظام البعثي الإفلات من تأثير هذه العقوبات على النظام ورجاله بمساعدة روسيا وإيران، وأن يرتد أثر العقوبات على المواطن السوري البسيط. فالأمر لم يعد محتملًا للمواطن الذي تتعقد أمامه الخيارات وترتفع عليه الأسعار وتشح أمامه السلع الأساسية وتنعدم أمامه الخدمات. المصدر: الإسلام اليوم