لم يكن ينقص الثورات العربية الأخيرة إلا تلك الوثيقة الحجة التى صدرت عن الحصن الحصين للفكر الإسلامى (الأزهر الشريف)..فبعد سنين طال مطالها من هيمنة نظرية(حكم المتغلب صاحب الشوكة) التى كانت تضفى شرعية دينية على الاستيلاء على السلطة بالقوة دون مراعاة لعامل اختيار الأمة.. تقدمت الشعوب فى لحظة مفعمة بالمسئولية والجدارة لتتبع حلمًا قديمًا طالمًا داعب خيال الأجيال تلو الأجيال عبر التاريخ السحيق ..حلم اعتبره الكثيرون أضغاثا كثيفة ..ذاك هو حلم تصحيح الخطأ الذى امتد طولا وعمقًا فى التاريخ الإسلامى بما أساء كثيرًا للتجربة السياسية الإسلامية طوال القرون الماضية . ثم ما لبث الأزهر الشريف أن أدرك حجم المسئولية التاريخية التى أملتها عليه ثورة الشعوب فكان أن أصدر وثيقته الشهيرة والتى تذكر أهم موادها : * تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة *اعتماد النظام الديمقراطى القائم على الانتخاب الحر المباشر كألية لتداول السلطة *الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية فى الفكر والرأى. *ضرورة توافق سلطة التشريع مع المفهوم الإسلامى. *شرعية السلطة الحاكمة من الوجهة الدينية والدستورية قائمة على رضا الشعوب واختيارها الحر من خلال اقتراع علنى يتم فى نزاهة وشفافية ديمقراطية باعتباره البديل العصرى المنظم لتقاليد البيعة الإسلامية الرشيدة. * من قال من فقهائنا بوجوب الصبرعلى المتغلب المستبد حرصا على سلامة الأمة من الفوضى فقد أجاز فى الوقت نفسه عزل المستبد الظالم إذا تحققت القدرة على ذلك. *مواجهة أى احتجاج وطنى سلمى بالقوة والعنف المسلح تعتبر نقضا لميثاق الحكم بين الأمة وحكامها وإذا تمادت السلطة فى طغيانها واستهانت بإراقة الدماء حفاظًا على بقائها أصبح من حق الشعوب المقهورة أن تعمل على عزل الحكام المتسلطين وعلى محاسبتهم بل تغيير النظام بأكمله مهما كانت المعاذير *انتهاك حرمة الدم المعصوم هو الخط الفاصل بين شرعية الحكم وسقوطه فى الإثم والعدوان . ................ هذه الوثيقة تعد من الوثائق الدرية فى التاريخ الإسلامى ..فبعد أن كان أمر الحكم محصورًا فى طرق ثلاث : بيعة أهل الحل والعقد أو فى الاستخلاف أو القوة والتغلب ..أصبح صوت الأمة التى لا تجتمع على ضلالة هو الصوت الأكثر دويًا وتأثيرًا فى حركة التاريخ .. ونحن إذ نحتفى بهذه الوثيقة وهذا المواكبة التاريخية من الأزهر لحركة الشعوب لا ننسى المبادئ التسع للشيخ الجليل محمود شلتوت(1893-1963م) شيخ الجامع الأزهر من عام 58-1963 وأول من نعت بالإمام الأكبر..والتى كان أهم بنودها السيادة لله وحده والحكم لله وحده والشعوب تباشره نيابة عن الله والحاكم خادم الأمة والشورى أساس الحكم وبغيره يكون الحكم غير شرعى وللأمة أن تعزل الحاكم إذا جار وظلم وظهر غشمه ولم يرعوى لناصح أو زاجر فإن رفض عزل بالقوة ..الشيخ شلتوت ذكر هذه المبادئ فى عز قوة الرئيس الأسبق عبد الناصر وقتها كان الصوت الإسلامى فى تيار الحياة ضعيفًا خافتًا ..وكان الصدام الشهير بين جماعة الإخوان المسلمين ونظام يوليو مازال ساخنًا .. خير الأزهر ممدود وموصول بعطاء علمائه وشيوخه الأجلاء . الآن بعد أن أصل ووثق الأزهر ثورة الشعوب وحطم النظرية التى هيمنت على المشهد السياسى العربى منذ الدولة الأموية وحتى الآن ..فلنا أن نفخر بأن نقول إن التجربة السياسية العربية تأخذ الآن منحى آخر بعيدًا عن الشوكة والتغلب . لم تكن الثورات الشعبية ثورة على الاستبداد فقط كانت أيضًا ثورة على الفكر السياسى الذى طالما تظلل الاستبداد بظله . وثيقة الأزهر هى أحد أهم تجليات الثورة الفكرية والتى نتمنى أن تشهد الأحزاب والجماعات ثورة مماثلة لها الطريق طويل لكننا وضعنا أقدامنا بفضل الله على أوله ولنتعلم من الحكمة التى تقول ..(نمهد الطريق بالسير فيه ). [email protected]