جاء انسحاب الدكتور محمد البرادعى من سباق الترشح للرئاسة فى توقيت لا يمكن معه منع التأمل فى هذا الانسحاب، بما قد يؤدى إليه هذا التأمل من ظنون، تساهم فى تدعيمها تلك المبررات التى ساقها البرادعى فى بيان انسحابه المصوَّر. بداية، لا أحد ينكر أن الدكتور البرادعى كان أيقونة من أيقونات حلم التغيير الذى كان يراود المصريين جميعًا قبل ثورة 25 يناير، بعد عودته إلى مصر وتقاعده من منصبه الدولى، وأنه كان مكونًا فاعلاً من مكونات التيار الذى نادى بالإصلاح ومطالبه السبعة الشهيرة التى التف حولها الشعب المصرى. كان الدكتور البرادعى واحدًا من الذين ثبتوا على مبادئ الثورة وأهدافها العامة لحد كبير، ولم يسجل أحد عليه أى تنازل أو تخلٍّ عن تلك المبادئ والأهداف، وإن اختلفت وسائله عن غيره، بل كان شديد الوضوح معبرًا بشفافية عن رؤيته، كما كان دائمًا إيجابيًّا فى كل مبادرات التعاون مع شركاء الوطن، حتى فى خلافه مع غيره من الرموز كان خصمًا شريفًا جديرًا بالاحترام. لقد تجاوزت أنا وكثيرون غيرى السؤال عن تفسير للاقتحام المفاجئ للدكتور البرادعى للحياة السياسية المصرية بعد تقاعده من عمله فى المنظمة الدولية، والذى كان واضحًا إبان عمله بها بُعده التام عن الانشغال بالوضع الداخلى فى مصر، وتنازلنا عن السؤال البدهى: "كنت فين من زمان؟!!" لعدم جدواه، ولأنه من الجدل الذى لن ينبنى عليه عمل، ولأنه لا يجوز احتكار العمل الوطنى وحرمان أى مواطن من حقه فى ممارسته إذا أراد مهما كان تاريخه ومواقفه. لكن الدكتور البرادعى دفعنا دفعًا لنطفو بهذا السؤال على السطح، عندما قال فى تصريح انسحابه أنه الآن سيستطيع أن ينظر فى المرآة و"ضميره مستريح"!! وكأن سعادته لم يكن ينظر فى المرآة قبل تركه لمنصبه فى المنظمة الدولية!! إن اهتمام الدكتور البرادعى "المفاجئ" بالشأن الداخلى المصرى، وإن كان محمودًا، إلا أنه بدا فى وقته وكأنه مجرد نشاط أو هواية من الهوايات التى يلجأ إليها "المحالون للمعاش" لقضاء الوقت، وحتى يكون لهم دور، أى دور فى هذه الحياة. وقد يكون انسحاب الدكتور البرادعى امتدادًا للتقليد الذى سنَّه جمال عبد الناصر (رحمه الله) لاستدرار التعاطف من الناس ورفع أسهمه بإعلان الانسحاب أو "التنحى" بعد انخفاض شعبيته وتعرضه لانتكاسة جماهيرية، وهو فى نفس الوقت أداة فعالة لجس النبض، ورصد ردود الأفعال، وبناء عليها يتم العدول عن هذا القرار، أو الثبات عليه. ومما يعمق سوء الظن تجاه قرار الانسحاب، مجيئه عقب انتهاء الانتخابات البرلمانية، وما حققه التيار الإسلامى بأجنحته المختلفة من صعود ونجاح، قضى على أحلام الكثيرين، وأظهر خطأ حساباتهم، ورداءة فهمهم لمزاج الشعب المصرى. احتمال لا يمكن استبعاده ولا الإنكار على القائلين به، ذلك الذى يقول بأن الدكتور البرادعى انسحب بعد أن أدرك من خلال نتائج الانتخابات الأخيرة أن فرصته فى الوصول لمقعد الرئاسة باتت شبه منعدمة، حيث كان التعويل على اختيار الشعب له باعتبار ما يشيعه هو وأنصاره من امتلاكه للخبرة والرؤية هو الأمل الأخير أمامه، بعد أن انهارت علاقاته مع كل من القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة. بددت اختيارات الشعب المصرى الأمل الأخير أمام البرادعى، وأدرك أن التنظير من الأبراج العاجية و"الكلام الحلو" لا يقنع المصريين، فضلاً عن نفور الشعب ممن يتعالى عليه ويحاول فرض وصايته ويتهمه فى وعيه واختياراته. أسرف الدكتور البرادعى فى بيانه فى الحديث عن وإلى "الشباب" بشكل مطلق، محاولاً تسويق أنه خيارهم الذى يمثلهم ويتحدث باسمهم، ولا ندرى عن أى شباب يتحدث الدكتور البرادعى!! فلكل تيار شبابه الذى يؤمن بأفكاره، فكم نسبة "شباب" البرادعى فى أوساط جموع هؤلاء الشباب؟! [email protected]