تشير مجريات الأحداث السياسية فى تركيا حالياً إلى أن تجربة وشكل الديمقراطية الموجودة بها ستتعرض لامتحان صعب جداً حتى مايو القادم 2007 وهو الموعد الرسمى والقانونى لانتخاب البرلمان التركى رئيسا جديدا لتركيا بإنتهاء مدة الرئيس الحالى نجدت سزر.فواقعة الهجوم المسلح وقتل قاضى بالمحكمة الإدارية العليا بأنقره يوم 17/5/2006 وما أعقبه من هجوم عنيف للتيار العلمانى - مدعوما بالجيش - على حكومة حزب العدالة والتنمية وإتهامها بالمسؤولية والتحريض على قتل القضاة بدفاعها عن حق إرتداء الحجاب للمرأة فى العمل والجامعة وما جرى فى مراسم جنازة القاضى القتيل من اعتداء لفظى وإهانة الوزراء ومحاولة للإعتداء عليهم وكذا إلقاء القبض على شخص يوم 30/5/2006 يحاول دخول مجلس الوزراء مخفياً مسدسا ناريا فى ملابسه.كل تلك الوقائع والحملة الإعلامية وتحركات رئيس الدولة بعقد لقاءات جديدة فى نوعها مع رؤساء الجامعات لحشد قوى التيار العلمانى والآتاتوركى لمنع حكومة حزب العدالة والتنمية من الاستمرار فى الحكم حتى بلوغ موعد انتخاب رئيس الدولة فى مايو القادم.كلها مؤشرات توضح بجلاء أن الفترة الزمنية القادمة تبدو حبلى بأحداث سياسية هيلودية ميليودرامية.فالحزب الجمهورى المعارض (يسار الوسط) بزعامة دنيز بايقال يرى فى نفسه حامى حمى العلمانية ذات الصبغة الآتاتوركية وهى نفس النقطة التى يتفق فيها الجيش معه.ولا يترك هذا الحزب أى فرصة تتاح له بحق أو بدون حق لكى يستغلها فى المطالبة بإجراء انتخابات عامة مبكرة بينما يظل الحزب الحاكم بما له من أغلبية ساحقة داخل البرلمان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى الموافقة على تبكير الانتخابات العامة المقررة رسمياً فى أكتوبر 2007 وكما ذكرت سالفا فقد استغل واقعة المحكمة الإدارية لكى يشن حملة إعلامية وشعبية شعواء متهما الحكومة بالمسؤولية عن وإثارة الناس ضد مؤسسات الدولة الرسمية المعارضة للحجاب رغم أن التحقيقات الأولية الخاصة بالحادثة أثبتت عدم وجود أى علاقة للقاتل بالحجاب وأنه من شاربى الخمر وغير متزوج ولا توجد مشكلة لدى عائلتة فى ارتداء الحجاب فضلا عن علاقتة بتنظيم غير قانونى يديره ضباط من الجيش.إن التيار العلمانى بتركيا غير قادر على تحمل جلوس طيب أردوغان أو أى شخص لا يؤمن بالتطبيقات العلمانية المتطرفة وعلى رأسها كون زوجتة ترتدى الحجاب وحجت بيت الله فكيف تجلس فى مقر رئاسة الجمهورية وتمثل تركيا فى الخارج والداخل.مع أن أردوغان لم يجلس على مقعد رئاسة الحكومة إلاّ بشكل شرعى وفى ظل القوانين العلمانية والشكل الديمقراطى القائم وهو نفسه الذى قبل دخول السجن فى عام 1999 بتهمة قراءة شعر لشاعر وطنى راحل يراه نفس التيار العلمانى معارضا للعلمانية اللادينية.أى أن أردوغان جاء للحكم بطريق شرعية وعبر صناديق الانتخاب أى بإرادة شعبية والدستور التركى يقول " السيادة للشعب دون قيد أو شرط " ومسألة انتخاب رئيس الدولة محددة داخل صلاحيات البرلمان وحده بحيث يتم اختيار شخص من الذين يرشحوا أمام المجلس وهى نفس الطريقة التى جاء بها ديميريل رئيس تركيا السابق الذى يدعو اليوم لانتخاب الرئيس من الشعب ويقول إن حزب العدالة لا يمثل كل تركيا ! ولذا قال أحد فقهاء القانون الدستورى التركى وهو الدكتور ممتاز صويصال وزير الخارجية الأسبق والعضو البارز فى تيار يسار الوسط فى حديثه لجريدة جمهوريت يوم 7/6/2006 أن نظام انتخاب رئيس الدولة القائم حاليا والمنصوص عليه بدستور عام 1982 هو المناسب لتركيا ومن الصعب التحول لنظام انتخاب رئيس الدولة مباشرة من الشعب.وصويصال قال كلمة حق من أستاذ يحترم علمه ومكانتة ولم يعط مكانا لميله الفكرى السياسى عند حديثه عن القانون وهو يدرك أيضاً أن رئيس الدولة بتركيا صلاحياتة محدودة جداً لأن النظام القائم برلمانى وحكومتة مسؤولة وإذا طلب انتخاب الرئيس من الشعب يعنى إحداث تعديل فى النظام السياسى والتحول للنظام الرئاسى أو الرئاسى البرلمانى المشترك وعندها تعطى صلاحيات أوسع للرئيس طالما أنه يعبر عن إرادة شعبية لها وحدها حق السيادة بالدستور.وليس من المنطقى أن يتم تعديل نظام الدولة برمتة بسبب حجاب زوجة الرئيس أو تديّن الرئيس والحقيقة أن منصب رئيس الحكومة بتركيا هو الأقوى دستورياً والبرلمان هو السلطة التشريعية والحكومة مسؤولة أمامه وأمام الشعب وليس لرئيس الدولة سلطات لا على الحكومة ولا على البرلمان.وقد جلس أردوغان على مقعد رئيس الحكومة وحقق لتركيا ما لم يحقق منذ عشرات السنين ببلوغ إحتياطى النقد الأجنبى 60 مليار دولار وصادرات تجاوزت 70 مليار دولار و دخول 10 مليار دولار رأس مال أجنبى فى عام 2005 وصعد بدخل المواطن من 2500$ إلى ما فوق 5 آلاف دولار سنوياً والحكومة لديها خطة للوصول لرقم 10آلاف دولار دخلا للمواطن فى عام 2010 ولم يتخذ أردوغان وحكومتة أى خطوات من شأنها القضاء على النظام العلمانى القائم لدرجة أنه يعتمد على فطنة وصبر المواطنين فى تنفيذ وعد حل مشكلة حق المرأة العاملة فى إرتداء الحجاب أوإصلاح التعليم العالى لكى يبعد عن شبح التوترات السياسية المخرّبة للإستقرار والنمو الاقتصادى وثبات الأسواق بإصدار قرار أو قانون يعيد للمحجبة حقها فى إرتداء ملابسها المتطابقة مع قواعد الدين الإسلامى.لكن لا يبدو أن كل هذه الإنجازات وإحترام النظام العلمانى ستشفع لأردوغان وحزبه بإنتخابه رئيسا للدولة أو بشخص أخر معتدل أمام الهوس العنيف بالعلمانية لدى التيار المعارض للإعتدال والمحافظة على أعراف وعادات وتقاليد مجتمع شرقى مثل المجتمع التركى.بناء عليه ورغم عدم وجود سند قانونى يسمح بإنتخابات مبكرة أمام قوة الحكومة فى البرلمان إلاّ أن الطرف الأخر بدأ يلجىء لأساليب غير ديمقراطية فى إعاقة إستمرار الحكومة حتى موعد مايو القادم.فالأيام تبدو حبلى بما لا يتفق مع الديمقراطية والإرادة الشعبية وهو الأمر الذى جعل الكثير يتحدث عن بدء العد التنازلى لدخول تجربة الديمقراطية التركية امتحان من نوع السهل الممتنع. كاتب وصحافي مصري يقيم في تركيا [email protected]