الشيطان... كلمة تفزع منها القلوب.. تتصورها العقول في أبشع صورة.. يقشعر منها الوجدان .. وليس هناك أقرب شبها ولا أغرب منطقا ولا أشد غرورا بالشيطان من سامرية العصور، وخاصة مَن صحبوا الأنبياء فخاصموهم، وعاصروا العلماء فبهتوهم.. ولا جرم .. فقديما قال زعيمهم: ”أنا خير منه“، واتبعه فرعون على الأثر ”أليس لي ملك مصر ... أم أنا خير من هذا الذي هو مهين“ حتى تفلت من عقاله وركب في غير مجاله فحشر فنادى: ”أنا ربكم الأعلى“ وعلى قافية الهالكين تعالم السامري: ”بصرت بما لم يبصروا به“، وبضلالتهم نادى الهالك ابن سلول ”لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل“... وأخيرا وليس آخرا وقف " القمني" يهز حجر الحماقة ليضرب به في قلعة القرآن وحصن الأمة ومعقل العربية رافعا عقيرته: ”الأزهر مؤسسة إرهابية.. إرهاب وسطي .. بلاش تموت مية موت عشرة.. بلاش السكاكين والحناجر يعني (يحض على القتل دون سكاكين)“... وادعى أنه سيقدم المستندات على هذا وأن هناك فريقا يجمع التوقيعات لرفع قضية وإثبات ذلك... ولكن القمني فاجأ جميع العلماء والعوام عندما قال: "(الأزهر) يرى كل من هو غير مسلم وغير متمذهب بمذهبه السني الحنبلي الوهابي هو كافر بالتالي هو يصدر الإرهاب للعالم وده اللي بيدرسوه للطلبة في المدارس.." وهذا كلام يدعو للرثاء أن يكون لدينا أناس بهذا الجهل يتكلمون على الشاشات وتستضيفهم الفضائيات .. فالأزهر يدرس مختلف عقائد الفرق الإسلامية في حرية كاملة، ونقاش أكاديمي حر، وإن كان معظم أساتذته على مذهب السادة الأشعرية في مسائل الاجتهاد العقدية، كما يدرس مدارس الفقه الأربعة ويقارن في كليات الشريعة والدراسات الإسلامية وقسم الدراسات الإسلامية بكلية اللغات والترجمة بين المذاهب الثمانية (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية والإمامية والزيدية والإباضية) بل وفقه المدارس المندرسة مثل فقه ابن جرير الطبري والثوري وابن راهويه وأبي ثور وغيرهم... والأزهر وإن كان يدرّس المذهب الحنبلي، فليس هو بمذهبه الرسمي ولا الشائع بل هو أقل المذاهب انتشارا في مصر والأزهر، ولربما كان عدد الحنابلة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة كل عام.. والأزهر معقل علم السلف المتقدمين وروضة أزاهير العلماء المتأخرين.. لا يحجر على رأي، ولا يكفر أحدا من أهل الملة بذنب إلا إذا قام سلطان ظاهر وبرهان ساطع، ثم يتهمه القمني بالإرهاب والتكفير وتصدير الإرهاب.. وكلام السامري .. أقصد القمني .. يدل على أن هناك فريقا يعمل بقوة ضد الأزهر وعلمائه والإسلام وأهله، وهم يحدون الشفرات ويستعْدون مؤسسات عالمية لهذا الصدد.. وهذه خيانة تاريخية أتت على لسان أحدهم من بني جلدتنا .. ولربما بهرته أضواء الشاشة فقال ما لم يكن له أن يقول... وما قاله بشارة خير .. فقد آن للأفاعي أن تخرج من جحورها وأن تنزع الأقنعة عن وجوهها وأن يستبين للناس قبيح فحيحها وخبيث سمومها.. فاعملوا إنا عاملون.. فما زدتمونا علما بكم ولا أرهبتمونا بفارغ مقالكم.. حقيقة .. ليس هجوم القمني على الأزهر ببدعة، فهي شنشنة نعرفها من أخزم... فقد سبق له أن هاجم النبي والمهاجرين والأنصار واعتبر طاعة الأنصار للنبي في غزوة بدر تحولا في منهج النبي الذي رفض أن يقاتل أهل مكة عام العقبة، حتى آن الأوان لتفعيل ميثاقه مع الأنصار ليكون "حلفا هجوميا محاربا، فتحولت عناصر الجماعة الإسلامية، مهاجرين وأنصار، إلى دولة محاربة هجومية، دولة عسكر ومغانم متكاملة مقاتلة، كالقبيلة تماما، وبذات منطقها، لكن بعد أن تحول الولاء عن القبيلة وسلفها المعبود إلى الدولة ممثلة في رجال الحرب والدم والحلقة، الذين تحولوا عن الإجارة إلى الإغارة" ... وكان هذا الحل لرفع الشقاء وجذب المستضعفين بعدما تم الإعلان عن مغانم أحلها الله لرسوله وللمؤمنين من أموال المشركين... أصبح الحل حقيقة مادية دنيوية ملموسة ومكاسب عينية تدعوهم لدخول جيش الدولة الجديدة... (حروب دولة الرسول، 60).. هل رأيت .. أيها القاريء المؤمن.. ما رأى القمني في النبي والمهاجرين والأنصار والمستضعفين من المؤمنين... إنهم مجموعة من الفقراء الطامعين مصاصي الدماء "رجال الحرب والدم والحلقة" يقودون حربا هجومية على أساس قبلي دموي حربي طمعا في المكاسب.. والغريب الذي لم يدرسه ولم يذكره القمني أن كثيرا ممن شارك في هذه الحرب من الأنصار والمهاجرين كانوا من أهل الثراء والجاه قبل الإسلام وبعده، ولم تكن بهم حاجة إلى حرب قريش وعداوة سادة العرب لو كانوا طلاب مكاسب أو أهل مغانم. ودعني أزيدك من العفن صاعا، أتعرف عبيدة بن الحارث، ابن عم النبي، وأول شهيد للمسلمين في بدر، لقد مات وهو يقاتل عن دولة الهاشميين ويصد عدوان الأمويين، (السابق، 90)... فلم يمت هذا الصحابي الشهيد مجاهدا في سبيل الله ولا مؤمنا بعقيدة وإنما على العصبية القمنية.. على أن القمني الملوث في دخيلته بنحلة الصراع الطبقي، والمتخفي في سريرته بمعاداة الرسول ودعوته لا يرى في حروبهم من فضيلة غير أنها حلا لحياة الشقاء باستلاب النعمة والرفاه... حتى إنه فضل محاربي "قريش" على "المسلمين" في سلوكهم الحربي وتوجههم القتالي فقال: ”بينما كانت قريش تخشى إراقة دم أخ من أبناء العم أو الخال من المهاجرين، كان المسلمون غير هيابين ولا مبالين في هذا السبيل بأحد من الأقارب“ (السابق، 37)... طبعا .. القمني لم يقرأ رفض فوارس قريش قتال فوارس الأنصار عند بدأ المبارزة يوم بدر، وقولهم: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.. فأخرج النبي إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي .. (ابن هشام، 2: 268)... لذلك فالقرشيون يخشون ويتورعون عن قتل أبناء العمومة والخئولة... هذه هي القراءات الانتقائية للقمني التي تعيد رسم التاريخ رسما طبقيا وقبليا يجرد النبي وصحابته من كل منقبة ويصب على أعدائهم الفضائل صبا ...كأن الذي صنعوه ليس بمعجز وما فعلوه ما كان لله في شيء.. أنا أكتب هذا المقال مخالفا إحدى القواعد التي أربي عليها أحبابي من طلاب الأزهر، وهي أن لا يضيعوا أعمارهم في الرد على الأدعياء، وأن يصنعوا الأمجاد كما صنع العظماء، وما انتويت هنا تعقب القمني في كتاباته، فليس هذا بغرضي ولا يصح أن يكون لي بغرض ... وإلا إنما غرضي أن أبين للقاريء الكريم أن القمني الذي رفع قدوما شائهة مثلومة ليضرب بها صرح "الأزهر" لم يزل يحمل منذ ثلاثين عاما عقيرة محمومة ومعاول كليلة مسمومة يخبط بها خبط عشواء في النبي وصحابته الأطهار والإسلام وتعاليمه وتاريخه .. ولكني أنبه السامريين الجدد جميعا أن الأزهر كان ولا يزال وسيظل موئل الأمة وكعبة العلم وبيت الحكمة وحصن الإسلام ومفسر القرآن وحافظ الحديث ومرجع العربية وباعث النهضة ومهد المجددين .. وهو فوق ذلك كله ... مبيد الزنادقة... أيها السامريون ... أصحاب العجل... أكلما انفض الناس عن عجل السامري وعبادته نفخ أحدكم فيه... فخار... تجمعون مرضى القلوب وضعاف العقول وضحايا النفاق وطلاب الشهرة ومرجفي المدينة .. دفاعا عن السامري وعجله.. إن الأزهر الشريف وشيخه الكريم وعلمائه الأماجد يصمتون لا عجزا، ويصبرون لا خوفا، ويحلمون لا عن مسكنة.. بيد أنه لكل صمت أجل.. ولكل صبر حد .. ولكل حلم منتهى... والملام على وزارة زعمناها بيت علم وثقافة فانتصرت لأهل الجهالة والخرافة... فأخذت من أموال الأمة بزعم رعاية التربية ونشر الفضيلة والقيام على الأخلاق ودعم الفنون وتقويم الانحراف ثم هي إن أنفقت.. أنفقت على الباليه والمراقص.. وإن نشرت طبعت نتاج اليساريين وأذنابهم.. وإن استعملت .. استعملت المتغربين وضرباءهم.. وإن رشحت للجوائز المحلية والأوسمة الوطنية .. رشحت الأنصاف والأرباع والأخماس.. وتركت مراتب العمل والفضل والكمال.. فإذا أعدت لنا وليمة ثقافية غضت موائدها بالميتة والموقوذة والمتردية والنطيحة ثم جعلت على طرف المائدة كسرة خبز محطومة من شعير شح سحابه وغاب عنه حارثه .. مصنوعة في مخبز مملوكي قديم مغبر .. لا أثر فيها للذة.. ولا رغبة فيها لراغب .. ليست بطعام جائع ولا كفاية مستزيد... فالله الله في شباب الأمة يا أهل الفن والإبداع! وأخيرا فإنني أبشر نعقة السوء وأبواق الريبة وأكلة السحت أن للأزهر شيخا يغفر ولا ينسى، وعلماء صدق يصبرون ولا يلينون، وشباب خير يحلمون ولا يستكينون .. وبعد.. فالأزهر هو الأزهر .. مجتمع العلم وحوزة الحق ومنارة أهل الهدى، وأنتم أنتم .. السامريون الجدد... د. محمد فوزي عبد الحي جامعة الأزهر الشريف .. عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية