من حيث الأصل لم يكن هناك أي مبرر لأن يصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قرارا بتشكيل لجنة تقصي حقائق تناقش البيانات التي أعلنها المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ، والتي ذكر فيها أن حجم الفساد وإهدار المال العام حتى اليوم منذ توليه المسئولية وصل إلى ستمائة مليار جنيه ، وهو رقم أثار الرعب في قلوب الناس من حجم الفساد واتساع نطاقه ، رغم أن الجميع يعرف أن مصر تعاني من الفساد المستشري في جميع خلايا الدولة ، الآن ومن سنوات طويلة ، وليس الأمر جديدا ولا مفاجئا ، ولكن الرقم كان ضخما بالفعل ، والجهاز المركزي للمحاسبات جهاز سيادي ويعمل فيه آلاف الباحثين ويفترض أنه مركز ثقة الدولة وموجه أعمالها في أعمال الرقابة وملاحقة الفساد ، لذلك حصنه الدستور كما جعل تابعيته لرئيس الجمهورية مباشرة ، فما معنى أن يطلب رئيس الجمهورية تشكيل لجنة للتحقيق فيما قاله ، لماذا لا تلغي الجهاز إذن وتجعل تلك اللجنة بديلا لعمله ، كان يكفي أن يطالب رئيس الجمهورية كافة الجهات الرسمية التي وردت في بيان المركزي للمحاسبات أن ترد بالوثائق والمستندات والأرقام ، لأن الاتهام موجه لها ، والمستندات بحوزتها ، أما حكاية تشكيل لجنة فقد فهم منها منذ اليوم الأول أنها لجنة للتحرش بهشام جنينة شخصيا ، لأنه حالة استثنائية في المناخ الحالي في مصر ، وهناك كثيرون في أجهزة أخرى ومؤسسات رفيعة كارهون لوجوده ، ويتلمظون غيظا من بقائه في منصبه ، ورفعوا عليه قضايا كثيرة لطرده وعزله ، وحرضوا رئيس الجمهورية علنا لعزله ، وحرضوا عليه "سفلة" الإعلام ليشتموه ببذيئ الكلام علنا مع ضمان كامل لهم بأن لن يحاسبهم أحد ، لأن ظهرهم محمي . البيان الذي أعلنته لجنة تقصي الحقائق المزعومة بيان غير علمي وغير إحصائي وغير نزيه أيضا ، وكان يفترض أن يتوقف عمله عند تحقيق الأرقام المعلنة ودقتها ، وليس مطلوبا منه أن يتخذ منصة لتعليم هشام جنينه أصول الوطنية والحرص على سمعة الدولة وصورتنا أمام الجهات الأجنبية والمواءمات السياسية ، هذا بيان سياسي بامتياز ، كما أن الألفاظ التي استخدمها بيان اللجنة للتعليق على بيان جنينة كانت تفتقر إلى اللياقة والأخلاق المفترضة في مثل تلك الأعمال الرفيعة والمهمة ، ولكنهم كانوا حريصين على أن يصفوه بالمضلل ، رغم أنهم لم يثبتوا بطلان أي بند من البنود التي ذكرها هشام جنينه ، وإنما فقط أعادوا تفسيرها ، حتى أنهم اختلفوا معه في دلالة مصطلح الفساد في إهدار المال العام ، مثل قضية المجتمعات العمرانية حيث قالوا ما نصه : (وإدراج مبلغ 134.64 مليار جنيه لعدم التزام هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة منذ إنشائها عام 1979 بتخصيص مساحة 5 كيلومترات حول كل مدينة كأراضي بناء، مما عطل الاستفادة بقيمة تلك المساحات) ، واعتبروا ذلك ليس إهدارا للمال العام وبالتالي ليس فسادا ، في حين أنه فساد إداري عمدي أضاع على الدولة أكثر من مائة مليار جنيه بدون أي مسوغ إداري ولا قانوني ولا أي شيء ، لكن اللجنة الموقرة اعتبرت أن هذا "عادي" وليس فسادا ؟!! تسييس عمل اللجنة فضحها ، وكشف عن أنها شكلت بغرض التحرش بالمستشار الجليل ، الرجل الذي يفترض أن يتجمل به نظام الرئيس السيسي ، لا أن يتحرش به على هذا النحو ، وقد ورد في بيان اللجنة قولهم (تلك التقارير غير الدقيقة والتصريحات غير المسئولة يمكن أن تستخدمها المنظمات الدولية فى ترتيب وتصنيف الدول، والتى تعد أهم مدخلات تتخذ على أساسها مؤسسات التمويل الدولية قراراتها ، وأشار التقرير أن هنا يُثار التساؤل حول أهداف وجدوى إطلاق ذلك التصريح، علماً أن الدراسة معدة بالاشتراك مع جهات أجنبية مما قد يضر بالمناخ السياسى والاقتصادى للدولة فى الوقت الذى تسعى فيه بكل السبل لجذب الاستثمارات لتوفير فرص عمل وحياة كريمة لمواطنيها) ، وأرجو التدقيق في عبارة "التقارير غير الدقيقة" ، لم تجرؤ اللجنة "المضللة" على وصف أرقام هشام جنينه بالكاذبة ، وإنما استخدمت هنا العبارة الأقرب للعلمية ، والتي تؤكد أن تقرير المركزي للمحاسبات لم يكن لغوا ولا تضليلا كما زعموا ، وإنما الخلاف في "دقة" المعلومة ، وبقية النص يكشف عن خطاب سياسي يحاول تفسير ما حدث بأنه يضر بسمعة الاقتصاد ، وكأن العالم الذي نشر عشرات التقارير المروعة عن الفساد في مصر ينتظر بيان هشام جنينه ، وأما الحديث عن أهداف وجدوى نشر البيان فهذا ليس عمل لجنة التحرش وإنما هو تقدير رئيس الجمهورية والجهات السياسية الأخرى . وقد ختم البيان بعبارة خطيرة تقول : (وكشفت اللجنة أنه أثناء عملها تلقت العديد من المراسلات والشكاوى من داخل الجهاز المركزى للمحاسبات حول سياسات ومقترحات تتعلق بغياب العدالة وعدم الشفافية) ، أي أن الشكاوى بعدم الشفافية من داخل الجهاز كانت تنتظر اللجنة !!، وكأنه لم يكن هناك رئيس للجمهورية ولا هيئة للرقابة الإدارية يتوجهون إليها هؤلاء المجهولون ، فقد كانوا ينتظرون لجنة التحرش لكي يشتكوا هشام جنينه ، ودع عنك أن نطاق اختصاص اللجنة كان في موضوع آخر يتعلق بأرقام محددة ، وكان الأكرم لها أن تحترم ما انتدبت له ، لا أن تعمل كجهاز أمني يتجاوز صلاحياته ، ولكن يبدو أن الله أراد أن يكشف سوء النوايا فجعلهم يتورطون في الكشف عن نوايا هذا التحرش العمدي بأنفسهم ودون حاجة لإثبات . المركزي للمحاسبات في عهد هشام جنينه كشف لأول مرة تجاوزات في حق المال العام في قطاعات لم يكن يجرؤ أحد من قبل على الاقتراب منها ، بما في ذلك وزارة الداخلية وجهاز الأمن الوطني والنيابة العامة ومرفق العدالة بشكل عام وأجهزة سيادية أخرى ، وكنا نشفق على هذا الرجل من تلك الجرأة والدخول في عش الدبابير ، لكنه كان مصرا على أن يكون أمينا مع وطنه ومع الدولة التي استأمنته على مالها العام وهو يعلم بأن العواقب قد تكون خطيرة ، .. شكرا سيادة المستشار ، فأنت شرف لهذا الوطن ، ولك دين في عنق كل مواطن أهدروا حقه ونهبوا بلده ثم تكاتفوا على منع الكشف عن هذا الفساد ، لأنه عار يلحقهم .أن