تقوم الثورات عندما يفيض الكيل ويدرك الشعب الثائر أنه لابد من التضحية وتسديد مهر الحرية من دماء شهدائه إنقاذًا لنفسه والوطن ولأجياله القادمة.. وعندما تنتصر الثورة فإنها تطيح بالنظام الفاسد بكل أفراده وقياداته ومؤسساته، فنسقط الشرعية المزيفة التى جاءت بالتزوير أو بالانقلابات العسكرية، وتفرض الشرعية الثورية نفسها.. والشرعية الثورية تكون نابعة من الثورة ويفرضها الثوار ومن خلفهم الملايين من أبناء الشعب الثائر طبقًا لقوة الدفع التى تعتمد على الزخم الثورى وصلابة الثوار.. ونظرًا لأن الثورات الشعبية غالبًا ما تفتقر إلى القائد الذى يستطيع أن يعزز الشرعية الثورية ويقود الثوار إلى الانتصار النهائى بالضربة القاضية.. فإن الثورة فى هذه الحالة تحتاج إلى كثير من الحكمة لتنتصر بالنقاط، عوضًا عن الضربة القاضية. والطريق الطبيعى لاستكمال الثورة وتحقيق أهدافها هو سرعة تأسيس الشرعية الدستورية المستندة إلى الإرادة الشعبية الحرة، بالانتخابات النزيهة.. وغنى عن البيان أن الشرعية الثورية تكون حالة خاصة مؤقتة، وأنها يجب أن تؤول بسرعة إلى الشرعية الدستورية المستقرة.. فليس معقولا أن تستمر التعبئة الثورية والمظاهرات والاعتصامات وغيرها، بعد أن أدت الثورة إلى انتخابات حرة، وأصبح هناك ممثلون حقيقيون للشعب، وقنوات دستورية حرة للتعبير والاحتجاج والمحاسبة.. فوجود القنوات الدستورية الحرة يغنى بالتأكيد عن الاحتجاجات والتحركات الثورية، لأن الحركات الثورية لا ينبغى أن تكون حالة دائمة؛ تعطل الإنتاج وتؤجل سير الحياة الطبيعية.. وهذا ما عبر عنه ببراعة العلامة الراحل الشيخ الشعراوى بقوله (الثائر الحق الذى يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبنى الأمجاد).. والواقع أن الظروف الخاصة التى تمر بها الثورة المصرية المباركة ربما تفرض علينا حالة فريدة تؤدى إلى الجمع بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية إلى حين، كما سوف نوضح. فالمجلس العسكرى، كما يبدو متردد، ولم يحسم أمر التحول الديمقراطى بالانتقال الطبيعى إلى الشرعية الدستورية فى أعقاب الانتخابات الحرة التى احتفى بها الشعب الثائر وأقبل عليها بصورة أذهلت الدنيا كلها.. مما يتطلب احترام اختياراته وتلبية إرادته بنقل إدارة البلاد إلى الأيدى التى اختارها الشعب.. ولكن المجلس قال كلامًا غريبًا عندما صرح أحد قادته بأن المجلس الأعلى لن ينقل السلطة إلى فصيل واحد!، وإن صحت هذه النية فهى تعنى أن المجلس الموقر لا يلقى بالا إلى رأى الشعب، وأنه يمكن أن يترك السلطة لمن سقطوا فى الانتخابات مثلا، إذ كان ينبغى القول بأن المجلس لن ينقل السلطة إلى فصيل بعينه (إلا إذا كان هذا هو قرار الشعب).. فهل نسى المجلس الموقر أنه لا يمثل الشعب، وأنه لا يحق له التحدث باسمه، لأن الشعب لم يمنحه هذا الحق؟!. ومن أعاجيب التحايل على الثورة أيضًا أن حكومة الجنزورى تسعى إلى أمر مريب؛ وهو التخطيط إما للبقاء فى السلطة لأطول فترة ممكنة، وإما لتوريط الحكومة القادمة المنتخبة فى قرارات وتصرفات غير نابعة من برنامجها، ويفرض عليها الأمر الواقع.. فهذه الحكومة لا شك أنها حكومة مؤقتة أو حكومة تصريف أعمال، مهما حاول من أتوا بها أن يضعوا حولها هالة غريبة بوصفها بأنها حكومة إنقاذ وطنى!. وهذه الحكومة تتصرف بالفعل وكأنها الحكومة المنتخبة التى جاء بها برلمان الثورة.. فهى تخطط بغير وعى لعشرات السنين القادمة، وتتخذ من القرارات الاستراتيجية ما لا يتفق ووضعها الحقيقى كحكومة تصريف أعمال، وتُزايد على الثورة والثوار وعلى الأحزاب التى حظيت بثقة الشعب.. كان أمام الحكومة أن تركز على القرارات العاجلة التى لا تحتاج إلى أموال كثيرة، والتى توقف الانهيار الخطير الذى ورّثه لنا النظام المخلوع، تمهيدًا لبدء البناء الجديد من نقطة الصفر بواسطة حكومة منتخبة أمامها من الوقت ما يكفى لإصلاح الخرابة الموروثة.. وكان أمامها أن تُشعر الشعب بعوائد ثورته بالعمل على إنجاز بعض ما ثار الشعب من أجله، مثل تحسين الأحوال المعيشية السيئة؛ باسترداد الأموال المنهوبة، ووقف النهب المنظم الذى لم يتوقف، ومنع الرشا، وسرعة محاكمة المفسدين.. أو على الأقل استثمار المد الثورى وحماس الشباب للتخلص من عار انعدام النظافة، ووقف تلوث الهواء بعوادم السيارات الخربة، وإعادة الطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم وإنقاذهم من حالة تضييع العمر بالشوارع لهثا وراء الدروس الخصوصية، وإنقاذ الناس من حالة الشلل المرورى الدائمة... إلخ. إن هذه الظروف الخاصة التى تواجهها ثورتنا تتطلب الجمع بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية مؤقتا، سعيا إلى تمكين الشرعية الدستورية والعودة بالتالى إلى الحالة الطبيعية المستقرة.. فلدينا الآن مجلس منتخب، وهو الجهة الشرعية الوحيدة المتاحة حاليًَا.. ونعتقد أن الفرصة مهيأة لذلك باستثمار الاحتفال بالعيد الأول للثورة يوم 25 يناير المقبل، للمطالبة بالانتقال الفورى إلى الشرعية الدستورية.. على الشعب الثائر العظيم أن يعود بالملايين إلى كافة الميادين ليفرح ويحتفل بالثورة ويعلن بنفسه عن تشكيل أول حكومة منتخبة، حكومة الثورة، لتبدأ عملها وتحلف اليمين يوم 11 فبراير؛ احتفالا بخلع الطاغية. [email protected]