جاء إسقاط الطائرة الحربية الروسيّة من قِبَل سلاح الجو التركي ليشعل المنطقة المشتعلة أصلا بفعل الثورات الشعبية على نظم مستبدة لم تجعل للشعوب خيارا في مواجهتها إلا الثورة عليها، فكان ذلك الربيع العربي الذي بدأ منذ ما يقرب من خمس سنوات، فانقلب في بعض البلدان حربًا أهلية لم تضع بعد أوزارها، وفي بعضها الآخر عاد النظام القديم بسياسات أكثر عنفا ووحشية، وفي بعضها عاد النظام القديم عبر انقلابات ناعمة بغلالة ديمقراطية رقيقة جدًا لا تكاد تستر عورته. والشاهد أن المنطقة العربية وجوارها الإسلامي أو ما يمكن تسميته محور طنجة - جاكرتا على أرض تمور بالتغيرات: بعض تلك التغيرات متعلق بمحاولات اللاعبون الكبار تغيير الخرائط والحدود بين الدول، وبعضها متعلق بانتهاء صلاحية نظم سياسية آن وقت استبدالها، وبعضها متعلق بالمعادلات الحاكمة لمجمل تطورات المنطقة ومصالح الدول الكبرى فيها، وخاصة سيناريوهات المستقبل القريب. ولا يمكن فهم عملية إسقاط الطائرة الحربية الروسية إلا في ضوء فهم السياسات الدولية والإقليمية على الأرض سواء في سوريا أو في مصر أو حتى في اليمن، ذلك أن قرار إسقاط طائرة حربية روسية لأنها اخترقت المجال الجوي التركي قرار دولة، وليس قرار العسكريين الذين نفذوه: أصرّت روسيا على اعتذار تركيا، ورفض أوردغان الاعتذار، فبدأت سلسلة القرارات الانتقامية التي اتخذتها روسيا سواء على صعيد الاقتصاد أو على صعيد فتح الملفات القديمة من قرون كملف إبادة الأرمن وتحميل تركيا المسؤولية عنها، أو على صعيد التاريخ القريب وهو تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء والتلميح لدور تركي. فكان تحذير أوردغان لروسيا من اللعب بالنار، وإدراكه لمرامي الدّب الروسي وأهدافه من توسيع المساحات العسكرية والجيوبولويتيكية التي يريد أن ينفرد بها، ويؤسس لسيطرة فيها. من ناحية أخرى كان أوردغان قد التجأ إلى حلفائه في الناتو، واستوثق من دعمهم، فكانت تصريحات الأمين العام للحلف ينس شتولتنبرغ: إنّ رواية تركيا عن اختراق الطائرة الروسية لمجالها الجوي تتطابق مع ما لدى الناتو في هذا الخصوص، وتمثل المؤشر الثاني عن دعم الناتو لتركيا في مواجهتها مع روسيا في الاستجابة السريعة من الحلف للطلب التركي بعقد لقاء طارئ في مقره في العاصمة البلجيكية بروكسل في نفس يوم إسقاط الطائرة. هي –إذا- لحظة فاصلة، ولا يمكن لتركيا أن تواجه روسيا منفردة. هذا إذا لم يكن إسقاط الطائرة قد تم بالترتيب مع الناتو، فهذا قرار قد تتحمل جميع دول الناتو تداعياته، إذا تم التصعيد للحد الأقصى، خاصة في أجواء وظروف إقليمية مهيأة للاشتعال، ونذر الحرب تلوح. لقد جاء إسقاط الطائرة الروسية كموقف تركي يهدف إلى ارسال الرسائل في كل اتجاه: فالقصف الروسي المكثّف لمناطق التركمان السورية قد يخلق أزمة للداخل التركي بموجات هجرة متتالية تنوء بتداعياتها الدولة التركية، ومحاولة الروس التمركز في سوريا عبر إنشاء القواعد العسكرية، ونشر منظومات الصواريخ، وتكريس مناطق النفوذ قد يخل بميزان التوازن الحالي، ويمد في عمر نظام بشار مما يرشح استمراره مع ما يحمله ذلك من تداعيات سلبية بالنسبة لتركيا. ربما كانت مفاهيم الحرب بالوكالة هي المدخل الأكثر مناسبة لفهم ما يحدث في هذه المنطقة التي فتحت عليها أبواب النيران من كل جانب، فتوسع روسي أكبر في المنطقة غير مقبول في استراتيجيات حلف الناتو، وإنهاء دور بشار، وبناء دولة ديمقراطية جديدة خارج الحسابات الروسية غير مقبول في استراتيجيات بوتين، ما لم تكن ثمة صفقة دولية وإقليمية كبرى تتقايض بها مناطق النفوذ، وتؤمّن تغيرات المستقبل وتداعياتها. أتصور أن الصراع لن يتجاوز سقفه الحرب الكلامية، والسياسات الانتقامية الاقتصادية، وعمليات جسّ النبض المتبادلة، فروسياوتركيا بحاجة شديدة إلى بعضهما (اقتصاديا: من الصعب على تركيا التوقف فجأة عن استخدام الغاز الروسي، وعسكريا: من الصعب على روسيا التوقف عن استخدام مضيق الدردنيل) وأي تصعيد للتوتر بينهما سيلحق بكليهما أضرارا بالغة، وترجح هذه الحقائق الاقتصادية والعسكرية على الأرض أن الوضع بين أنقرة وموسكو لن يخرج عن السيطرة، لأنه ببساطة إن خرج فسيؤذن بمواجهات دولية لا تتحملها معادلات الوضع الراهن. إن جوهر الصراع في (وعلى) سوريا منذ أن هبّت رياح الربيع العربي عليها هو صراع مشاريع أيديولوجية ووطنية، واصطفافات وتحالفات دولية وإقليمية، فجوهر الصراع فيها منذ أن أضحت حديقة خلفية لكبريات الدول عالميا وإقليميا هو صراع أجندات دولية وأولويات مصالح، وربما ليست على رأس تلك المصالح مصلحة الشعب السوري، فالدول –كما أؤكد دائما- ليست جمعيات خيرية، ولا منظمات إنسانية، إنما كيانات مصلحية حتى النخاع.