نسمع فى مصر عن "أمانى" التأسى، مرة بالنموذج التركى، ومرة ثانية بالنموذج التونسى.. وسمعت من بعض شباب "التحرير".. أسفهم على تفويت فرصة الاحتذاء بالنموذج الليبى.. حين اعتبروا اغتيال العقيد القذافى "إبداعًا سياسيًا.. طوى الماضى، ولم يترك للشعب الليبى بابًا آخر غير التوجه نحو المستقبل! لا نسمع حتى اللحظة عن "النموذج المصرى".. الكل "تائه" يبحث عن ضالته عند الآخرين.. وهى مسألة "مؤلمة" وتضع المصريين فى مكانة ربما تظهرهم أقل قامة من قوى إقليمية صغيرة، وليس لها ذات الرصيد والخبرات والتجارب والثراء الفكرى والسياسى والحضارى الذى تحظى به مصر. مسألة محيرة حقا!!.. رغم أنا تبدو بسيطة إلى حد كبير، وهى ربما تتعلق بالنوايا ونقاء الضمير الوطنى لدى الطبقة السياسية التى تتصدر المشهد السياسى الآن.. ولعل التجربة التونسية تشير إلى مثل هذا المعنى.. فما حدث فى تونس لا يتعلق ب"الخيال" أو "الإبداع".. وإنما برغبة الجماعة الوطنية التونسية فى أن تتجاوز تونس محنة ما بعد الثورة، وفق توافق وطنى يراعى دقة المرحلة وحساسيتها ومراعاة "حقوق" وليس مصالح القوى السياسية على اتساعها وتباينها مهما كانت صغيرة أو على هامش "متن" التيار الوطنى الأساسى. المسألة هنا تتعلق ب"المسئولية الوطنية".. وهو شعور يرتبط حضوره بالتخلى عن المصالح الفئوية أو التنظيمية لصالح "الوطن" مهما كانت التضحيات.. فيما يظل الوعى بقيمة "المشاركة" وليس "المغالبة" هو الرقم الفاصل فى أية معادلة سياسية تستهدف بناء الدولة.. وهو الوعى الذى ظل حاضرًا على مقدمة أولويات التفاهم الوطنى داخل تونس، وأفرز قسمة سياسية بالغة الدلالة فى قيمتها الحضارية والإنسانية قبل أية اعتبارات سياسية أخرى. الإسلاميون فى تونس جاءت بهم الانتخابات فى مقدمة كل القوى وبلا منازع.. ومع ذلك لم يستسلم قادة العمل الإسلامى لشهوة الاغترار بالقوة.. والنزوع نحو الإقصاء والتهميش.. وإنما تحلوا بروح ونفس وطنى يليق فعلا بنبل القيم التى استقوها من الإسلام وفحواها الإنسانى والأخلاقى. اليوم فى تونس رئيس دولة "يسارى".. ورئيس حكومة "إسلامى".. وهى القسمة التى صدرت بمنطق وحكمة "رجل الدولة" المسئول أمام شعبه من جهة.. ويريد أن يظهر بلاده فى مظهر الدولة الإقليمية المسئولة فى المجتمع الدولى من جهة أخرى.. فيما أبرقت رسائل للعالم أعادت خلالها الاعتبار للتجربة السياسية الإسلامية باعتبارها "تجربة إنسانية" ذات فحوى أخلاقى رفيع.. قبل أن تكون "سياسية" فظة أوخشنة تستند إلى "الميكيافيلية" كما هى فى كثير من العالم الذى يوصف ب"المتمدين". [email protected]