يقال عادة في السياسة البريطانية أن البرلمان أو مجلس العموم يستطيع أن يفعل أي شيء لدرجة انه يستطيع أن يغير الملكية الى جمهورية، وهو ما يؤكد مبدأ السمو البرلماني الذي لا تعلوه سلطة أخرى حتى سلطة القضاء، وبريطانيا لا دستور مكتوباً لها، ولا محكمة دستورية عليا على غرار الولاياتالمتحدة وفرنسا . وهو أن لا سلطة أعلى من سلطة مجلس العموم، وحيث إن الحكومة هي التي تتحكم في البرلمان بحكم أغلبية المقاعد التي يتحكم فيها الحزب الحاكم، فالحكومة في النهاية هي من يحكم البرلمان وهي من يحكم السياسة البريطانية . هذه المقدمة الموجزة كمدخل لفهم السياسة البريطانية ضرورية ونحن نسمع عن عزم الحكومة البريطانية وعلى لسان رئيس وزرائها تغيير القانون الذي قد يسمح باعتقال متهمين بارتكاب جرائم حرب للمحاكمة، وذلك في أعقاب الأمر القضائي الأول في بريطانيا الذي أمر باعتقال تسيبي ليفني وزيرة خارجية “إسرائيل” في حكومة أولمرت في أعقاب الحرب التي شنتها “إسرائيل” على غزة وراح ضحيتها أكثر من ألف وأربعمائة شهيد معظمهم من المدنيين والأطفال والنساء . هذا الموقف يثير تساؤلات عديدة حول مستقبل وحقيقة الديمقراطية في هذه الدولة، ومستقبل القضاء وسيادة دولة القانون، وحول الأبعاد والمضامين السياسية وراء هذا التوجه، وهو ليس الأول من نوعه في أوروبا، فقد سبق لإسبانيا أن عدلت قوانينها . هل لأن المستهدف هو “إسرائيل”؟ أم أن الهدف هو الإسلام والمسلمون؟ أم أن الهدف هو السياسة وما تفرضه من مصالح مشتركة؟ أم أن الهدف هو وظيفة “إسرائيل” في السياسات الأوروبية والأمريكية وموقعها في الحضارة الغربية؟ أم أن الهدف كما قيل هو حرص بريطانيا على المحافظة على دورها في صنع السلام في المنطقة وتسوية القضية الفلسطينية، باعتبار أن بريطانيا هي المسؤولة الأولى عن نشوئها وتطورها بدءاً من وعد بلفور الذي أصدرته، وسياسات الانتداب على فلسطين التي سهلت قيام “إسرائيل”؟ كل هذه الأسئلة تحتاج الى إجابات واضحة وقاطعة . بداية إن الأزمة الأخلاقية التي تعاني منها الديمقراطيات الغربية، هي أزمة حكم، وأزمة أخلاق، حيث تغلب سياسات المصالح على الاعتبارات الأخلاقية، حسب التعبير الميكيافيلي الذي عاد ليحكم سياسات هذه الدول وخصوصا في كل ما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي وقضاياه وفي مقدمتها القضية الفلسطينية . نعود لبدايات القصة وهي أن ناشطين فلسطينيين وبريطانيين قدموا طلباً بتقديم مسؤولين “إسرائيليين” ارتكبوا جرائم حرب ضد الإنسانية في حربهم على غزة وفقاً لمبدأ العدالة الدولية . ولا شك في أن النظام القضائي والقانوني وحتى السياسي يسمح بذلك في بريطانيا، وينبغي أن نعترف بهذا الأمر، ولا نذهب بعيداً في تقديرنا وفهمنا للأمور، ونذهب بعيداً في انتقاداتنا العاطفية والحماسية . هذه هي السياسة في الدول الديمقراطية، إنها مزيج من العديد من القيم التي تغلب عليها في النهاية المصلحة القومية . وعلينا ان نكون موضوعيين في التفسير والفهم . فمن وجهة نظر ساسة بريطانيا أن هذا التعديل لا يمس مبدأ سيادة القانون، ولا مبدأ السمو البرلماني ولا مكانة القضاء، لأن المسألة من وجهة نظرهم ليست متعلقة ب”إسرئيل” فقط، بل مرتبطة بمحاربة “الإرهاب”، وأن هذا “الإرهاب” يضر بمصالح هذه الدول، ومن ثم قد يلزم البحث والمراجعة لهذه القوانين المنظمة والمحددة للإرهاب ومن يمارسه، وفي هذا التفسير لست ابحث عن تبرير للتعديل، بقدر محاولة شرح طبيعة سياسات هذه الدول وكيف تحكم، وكيف تنظر لقضاياها وسياستها الداخلية والخارجية . وهذا يتطلب منا مراجعة كاملة لدورنا في محاربة الإرهاب وكشف كل صوره، وخصوصاً إرهاب الدول الذي تمارسه “إسرائيل” وغيرها من هذه الدول . القضية شائكة ومعقدة، وتتجاوز حدود تعديل قانون من السهل تعديله في نظام بريطاني، ولكن السؤال: ماذا بعد ذلك؟