في مثل هذا اليوم قبل عامين ، بالتمام والكمال ، كان نزول عدد كبير من "المتظاهرين" استجابة لنداء من الفريق أول عبد الفتاح السيسي قائد الجيش بأن يمنحوه تفويضا لمواجهة أي أعمال إرهاب أو عنف محتمل ، ووجه الفريق السيسي كلامه العاطفي عبر الشاشات لأنصاره بقوله : (يوم الجمعة الجاية.. لا بد من نزول كل المصريين.. الشرفاء الأمناء.. ينزلوا ليه؟ ينزلوا عشان يدونى تفويض وأمر بأنى أواجه العنف والإرهاب المحتمل».. «بطلب منكم، توروا الدنيا، زى ما ورتوهم فى (30-6) قد إيه أن أنتم ليكم إرادة، وليكم قرار. الإرادة هنا والقرار هنا) ، وبناء عليه نزلت أعداد كبيرة من المتظاهرين يوم الجمعة 26 من يوليو 2013 لكي تظهر لقائد الجيش موافقتها على تفويضه . المشهد كان استعراضيا بامتياز ، وجاء في ظل أجواء محمومة بعد أسابيع من إطاحة الرئيس محمد مرسي ، واحتشاد مئات الآلاف من أنصاره في الميادين ، وخاصة في ميدان رابعة العدوية وأمام جامعة القاهرة ، وكان هذا التفويض فيما يبدو مقدمة ضرورية للعنف الدموي المفرط الذي تم به فض اعتصام رابعة العدوية والذي سبقه ولحق به دماء غزيرة لمئات المتظاهرين أمام نادي الحرس الجمهوري وأمام المنصة وفي ميدان رمسيس وغيرها من المواقع ، وهي دماء ندفع جميعا ثمنها حتى الآن ، ولا يعرف أحد متى ولا كيف تنتهي "لعنتها" التي تظلل حياتنا وتسد أفق المستقبل وتجعل الخوف من المجهول هو المسيطر على المصريين . لم أكن مستوعبا معنى أن يطالب قائد الجيش بتفويض شعبي لكي يقوم بمسؤولياته تجاه الوطن ، فهل بدون تظاهر الآلاف من أنصاره في الشارع لا يكون مسئولا عن أمن الوطن وأمانه ، هل بدون هذا التفويض لا يمكنه أن يواجه أي مخاطر للعنف أو الإرهاب الذي تتعرض لها مصر ، منطق غريب ، وأيضا فكرة "التفويض" بتكليفات محددة عبر المظاهرات من الأنصار والمؤيدين فكرة غريبة ويصعب تصنيفها وفق أي مبدأ دستوري او قانوني ، هل أي قائد عسكري أو زعيم سياسي يطلب من أنصاره أن ينزلوا في الشارع بالآلاف ليفوضوه بعمل ما فيصبح بعدها يمتلك شرعية خاصة للقيام بهذا العمل ، وهل يمكن أن نجري عملية إحصاء لمن تظاهروا للتفويض ومن رفضوا التظاهر بالتفويض ، في الدولة الحديثة تلجأ السلطة أو المعارضة إلى الاستفتاء لحسم الأمور ، ولأنها الطريقة الصحيحة والعلمية والدقيقة والوحيدة المشروعة والمعترف بها دوليا لمعرفة إرادة الشعب وقرار الشعب ، حتى لا يكون الأمر لعبة في يد أي سياسي مغامر أو عسكري صاحب طموح ، أما قاعدة التفويض دستوريا وقانونيا فلا صلة لها بالمظاهرات وبالشارع وإنما بالمؤسسات الدستورية وهي منوطة بممثلي الشعب المنتخبين في البرلمان ، أو أن تفوض سلطة رسمية محددة دستوريا سلطة أدنى منها بأعمال محددة ، والطريف أن الجنرال خليفة حفتر ، العسكري المتقاعد والمغامر في ليبيا ، اراد أن يلعب على نفس الوتيرة ، فخرج قبل سنة وقال أن الشعب الليبي فوضه بأن يواجه الإرهاب والعنف ويفرض الاستقرار ، وذلك بناء على عدة عشرات من المتظاهرين في مدينة طبرق الصغيرة الذين لوحوا بأعلام وشارات مؤيدة له ، ومن ساعتها وقد دخل بنغازي بالسلاح والدبابات ولم يخرج منها حتى الآن ، ولا يعرف كيف يخرج منها أساسا ، وحول العاصمة الثانية لبلاده ، وعاصمة الثورة الليبية ، حولها إلى خرابة وأطلال ودماء وأشلاء و تعطلت فيها كل مظاهر الحياة ومعالم الدولة بشكل شبه كامل . المدهش أن البعض ما زال يتحدث عن "التفويض" بوصفه مرجعية سياسية ، وقرارا حصل عليه الفريق أول عبد الفتاح السيسي من الشعب ، وأن هذا التفويض ينسخ الدستور والقانون وأي شيء في الدولة أو على الأقل هو وثيقة مكملة للدستور نظريا ، وإذا أدركنا أن هذا "التفويض" العاطفي لا يحمل أي بنود ولا محددات ولا شروط ولا التزامات ولا أي سقف زمني أو عملي ، لنا أن نتصور أي مستوى من الفوضى السياسية يمكن أن تعيشه البلاد إذا ظل البعض مقتنعا بهذا الهراء . والأخطر مما سبق أنه منذ حصل السيسي على هذا التفويض عبر التظاهر وقد اتسع نطاق العنف في مصر وانتشر الإرهاب ودفعنا وندفع أثمانا باهظة ، أمنيا وبشريا واقتصاديا وعسكريا واجتماعيا ، ثم بدأ السيسي نفسه بعد عامين من التفويض رحلة جديدة للبحث عن أدوات أخرى لمواجهة العنف والإرهاب ، بإجراءات جديدة وقوانين جديدة ، وهو اعتراف ضمني بأن فكرة التفويض كانت فاشلة ولم تحقق المأمول منها ، بل للأمانة ، كانت كارثية في نتائجها وعواقبها .