فى الوقت الذى ظلت فيه الشعوب المنكوبة فى سوريا واليمن وليبيا (قبل تحررها) تنظر للشعب المصرى بشيء من الغبطة التى ربما تصل إلى درجة الحسد على نجاح ثورتها فى ثمانية عشر يوماً دون الوصول إلى درجة الاقتتال الداخلي، نتيجة انحياز الجيش المصري للشعب ومطالبهِ العادلة، كان الموطن المصري يقف متحسراً وهو يرى ثورته تتفلت من بين يديه، بعد أن تبخرت أحلامه وذهبت آماله أدراج الرياح، فالأوضاع لم تتغير؛ بل سارت إلى الأسوأ، ولم تكن قرارات المجلس العسكري مواكبة لطموحات وآمال الجماهير التى لابد وأن نعترف أنها رفعت سقف الطموحات إلى مدًى أبعد من إمكانيات الواقع، ولكنها طبيعة الثورات التي أسقطت الأقنعة الزائفة التي أخفت الوجه الحقيقي للعديد من الأطراف الفاعلة فى مصر. إرث مبارك استطاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يأسر قلوب المصريين عندما اختار الانحياز فى لحظة معينة من الثورة إلى الشعب ومطالبه، ورفض – كما قيل – إطلاق الرصاص على المتظاهرين السلميين (المشير طنطاوى أنكر فى شهادته أمام المحكمة فى قضية الرئيس السابق مبارك أن يكون الأخير قد أصدر أوامر له بقتل المتظاهرين)، كما أعلن المجلس العسكرى أنه لن يكون بديلاً عن الشرعية، وأنه سيسلم السلطة لحكومة منتخبة فى مدًى زمني أقصاه ستة أشهر، ولكن توالي الأحداث بعد ذلك أثارت الريبة والشك فى قلوب المصريين؛ إذ فوجئ الجميع ببقاء أركان نظام مبارك، خاصة فى الإدارة الحكومية والأماكن التنفيذية، في أماكنهم، وأن الإطاحة برؤوس الفساد جاءت بعد جهد ومشقة ومزيد من "المليونيات"، وأن تقديمهم للمحاكمة – وعلى رأسهم مبارك ونجلاه – جاء على خلفية ضغوط شعبية جارفة. كما سمح المجلس لأعضاء الحزب الوطنى المنحل بإعادة تنظيم صفوفهم فى حوالي ثمانية أحزاب جديدة، ويبدو أن المجلس كان يراهن عليهم فى المجلس القادم لإحداث توازن فى وجه القوى الإسلامية، خاصة مع الضعف الواضح لجميع الأحزاب الأخرى الموجودة على الساحة، لذا لم يتجاوب مع مطلب القوى السياسية بإصدار قانون "العزل السياسى"، ضد كل من شارك وساهم فى إفساد الحياة السياسية (أصدره مؤخرًا بعد اشتعال الأزمة ولكنه سيحتاج سنوات للتطبيق). ولكن كل ما سبق كان يتم تحمله انتظاراً للانتخابات وتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة تعيد ترتيب الأمور والبدء فى التطهير الفعلي للبلاد، ولكن المجلس العسكرى تباطأ فى تحديد موعد الانتخابات، سواء البرلمانية أو الرئاسية، وخالف ما أعلنه فى أحد بياناته بأن يسلم السلطة على نهاية عام 2011 الجاري، وبدأ الشعب يسمع مواعيد جديدة تصل إلى 2013 دون تحديد جدول زمنى معروف. كما عمد المجلس إلى إصدار عدد من القوانين الهامة دون مشاورة القوى السياسية، حتى أن الجميع فوجئ بصدور إعلان دستورى تم الإعلان عنه بطريقة عفوية بعد صدوره بأيام دون أن يعرف أحد عنه شيئاً. كل هذه التصرفات تركت انطباعاً لدى القوى السياسية الوطنية بأن هناك ما يدبر فى الخفاء من أجل القضاء على الثورة المصرية ومكتسباتها، وعدم السماح بامتداد التغيير إلى جوهر الفساد ولبِّه، وقصره على القشرة الخارجية التى نُزعت بسَجْن مبارك وأركان نظامه الظاهرين. النخب السياسية وإنتاج الديكتاتورية إذا كان موقف المجلس العسكرى يمكن تفهمه على خلفية الثقافة العسكرية فإن الموقف غير المفهوم للنخبة السياسية المصرية التى أثبتت خبرة الشهور الماضية أن الأكثرية منها لا تستطيع أن تعيش دون وجود ديكتاتور يؤمن لها البقاء والدوام فى ظل مأزومية القبول الشعبي الذي تعاني منه، وعدم قدرتها على العمل الجماهيري المنظم، بعد أن اعتادت طويلاً العمل في ظل الحماية الدائمة لها من نظام مبارك عبر تسليمها المنابر الإعلامية والثقافية، والتخلص من أشد مناهضيهم وهم الإسلاميون، عبر الزج بهم فى المعتقلات والسجون، لذا فوجئت هذه النخب أنها أمام استحقاقات جماهيرية واسعة النطاق، لا تمتلك القدرة على الوفاء بها فى ظل الحريات التي عمت الجميع بلا استثناء، وسمحت لهم بالعمل والوجود العلني عبر الأحزاب السياسية والمنابر الإعلامية. فكان لابد من إنتاج ديكتاتور جديد يتكفل بالقضاء على العدو التقليدي "الإسلاميين"، ويحافظ على المكاسب النخبوية الضيقة على حساب حرية الشعب وحقوقه، لذا عمدت هذه النخب على إفساد مسار التحول الديمقراطي عبر الانقلاب على نتيجة استفتاء 19 مارس، وإدخال الرأي العام المصري في سلسلة طويلة من الشك والجدل، عبر معارك وهمية من عينة الدستور أولاً والمبادئ الحاكمة للدستور، وهي قضايا يراد منها تقييد حرية الشعب فى اختيار ممثليه فى مجلسي الشعب والشورى، والذين سيقومون بدورهم باختيار لجنة المائة التي ستتولى وضع الدستور، وبدا أن الغرض من كل هذه المعارك هو تحجيم وجود الإسلاميين في لجنة وضع الدستور، وإضعاف تأثير الإسلام في الدستور الجديد، عبر تفريغ المادة الثانية من الدستور، والتي تقضي بأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع، من مضمونها، وتركها جسدًا بلا روح، وشكلاً بدون مضمون. وفى سبيل ذلك لجأت النخبة إلى تمرير مواد في وثيقة المبادئ الحاكمة المعروفة بوثيقة السلمى (نسبة إلى د./ علي السلمي، نائب رئيس الوزراء، والذي تولى ترويجها، والمفارقة أنه كان يشغل منصب رئيس حزب الوفد، أي من المعارضة)، وتقضى بوضع خاص للمؤسسة العسكرية فوق الدستور والشعب، بصفته حامي الشرعية الدستورية "العلمانية" على غرار الوضع التركي الذى أثبتت الأيام فشله الذريع بعد حوالي ثمانين سنة من التطبيق. كما رأينا إصرارًا نخبويًّا على بقاء الجيش فى السلطة لسنوات تصل إلى ثلاث سنوات وربما أكثر، كما صرح بذلك محمد حسنين هيكل وأسامة الغزالي حرب وغيرهما من النخبويين، الذين تمكنوا من إقناع الجيش بضرورة تحجيم الإسلاميين عبر الإصرار على وثيقة المبادئ الحاكمة، وقد بدت الأجواء في الفترة الأخيرة كما لو أن اتفاقاً قد أُبرم بين الطرفين بضغوط خارجية من أجل وأد الحلم الديمقراطي لصالح الحكم الديكتاتوري – النخبوي. لذا كان الهلع واضحاً نتيجة نجاح مليونية الجمعة 19/11، التي دعت إليها القوى الإسلامية بمساعد أطياف وطنية وسياسية أخرى لرفض وثيقة المبادئ الحاكمة للدستور، والتي شهدت حضوراً جماهيريًّا قارب المليون ونصف المليون مواطن، أعلنوا رسميًّا سقوط الوثيقة، فكان اللجوء إلى الخطة البديلة بإشعال الموقف في الشارع، لجر الإسلاميين إلى صدام مروع، قد يكون كفيلاً بالقضاء عليهم. أحداث التحرير والاستهداف الخاطئ لعل المتابع لأحداث الأيام الأخيرة في مصر، والتي اعتبرها البعض الموجة الثانية من الثورة، يلحظ منذ البداية الإصرار الحكومي على إشعال الموقف، عبر الاعتداء بوحشية – صبيحة مليونية رفض الوثيقة المشئومة- على مجموعة من مصابي الثورة، كانوا معتصمين للمناداة بحقوقهم، ولا يزيد عددهم على مائتي شخص، وهو الأمر الذي أدى إلى تدافع الشباب إلى الميدان للدفاع عن المصابين، لتبدأ حالة من الكر والفر والضرب بوحشية، ذكَّرت المصريين بما حدث يوم 28 يناير، مع الحرص على بث مشاهد الاعتداء على كل القنوات، فيما بدا وكأنه رسالة للشباب للنزل إلى الميدان، تزامناً مع تكثيف الهجوم على الإسلاميين، باعتبارهم الداعين إلى المليونية التى أدت إلى هذه الفوضى (الغريب أن هؤلاء المهاجمين بعد اشتعال الموقف تحولوا للدفاع عن الشباب المعتصم!!!). ولكن لم يكن هؤلاء الشباب هم المقصودين بهذا الهجوم؛ إذ كانت الخطة تقتضي الضغط على الإسلاميين، وخاصة الإخوان المسلمين، عبر اتهامهم بالتخلي عن الثورة للنزول إلى الميدان، والاصطدام بهم، ومن ثم اتهامهم بمحاولة السيطرة على البلاد وتحويلها لإمارة إسلامية!! وتبرير الاعتداء عليهم واعتقالهم، وإرجاعهم إلى المربع الأمني مرة أخرى. ولكن المفاجأة أن الإخوان قرؤوا الموقف سريعاً، وقرروا عدم النزول، رغم شراسة الهجوم عليهم، واتهامهم بخيانة الثورة، وأن الذي نزل هم شعب مصر في العديد من المحافظات، ليخرج الأمر برمته عن السيطرة، ويطالب الشعب في الميادين لأول مرة بإسقاط المشير والمجلس العسكري. وخلاصة القول، أن المجهول أصبح هو سيد الموقف، وتعقدت الأمور بصورة فاقت كل الخطط الموضوعة، في ظل هذه الظروف الصعبة التى شهدت استقالة الحكومة، وعدم الاتفاق على شخصية تقود حكومة الإنقاذ الوطني خلال المرحلة المقبلة، ويقين الجميع بأن الانتخابات هي المخرج من كل هذه الأزمات. ولكن يبقى السؤال: هل يستطيع الشعب المصري تجاوز آلامِه، والتغلب على صعابه، وإجراء الانتخابات فى موعدها، ليمِيز بها الخبيث من الطيب، وبين المعبر عنه والمعبر عن الديكتاتورية متى حققت مصلحته. المصدر: الإسلام اليوم