لكل احتلال ثلاثة أطوار: فكرة تعد له، وأخرى تقطف ثمرته، وما بين الفكرتين حرب. أي أن التخطيط يشكل ثلثي مشروع الاحتلال، والثلث المتبقي هو المجهود الحربي، وهو مجرد وسيلة، والتعامل معها فقط لا يكفي. ويصنّف الطور الأخير على أنه الطور المدني من الاحتلال، الذي يختفي فيه اللون الخاكي، وتتوارى في الدبابة، وترتفع فيه قبة البرلمان، وتفتح فيه السفارات، وتنطلق فيه الأحزاب، ويسُد فيه الدستور والصحيفة والأغنية مسد الدبابة. هذا الطور هو الأخطر للشعب وقوى الاحتلال، وكم مشروع احتلال فشل في هذا الطور، حيث مقولة كسب الحرب وخسر السلام؟ "الشعارات وخطب المساجد والمظاهرات وأعمال المقاومة والاضرابات ستستمر في هذا الطور، ولكن في الطرف الآخر من المشهد ستتشكل "الحكومة الوطنية" بمقاييس الاحتلال، وتنشأ الأحزاب والصحافة والانتخابات، وتمهر "الحكومة الوطنية" على التحولات العميقة المقدمة لها. وينشأ جهاز أمني جديد من متواطئين محليين مع المحتل على غرار الحال في فلسطين، وسيكون ضعاف النفوس الذين حرقوا التراث والمؤسسات آذاناً وعيوناً للمحتل، وربما اختير يوم سقوط بغداد يوماً وطنياً في العراق"(*). سيشهد العراقيون في هذا الطور تغير مناهج التعليم، وإغلاق ملجأ العامرية، ومنع أنموذج متاحف هيروشيما وناغازاكي في اليابان التي تؤسس للذاكرة الجماعية الجديدة، وسيغلق ملف اليورانيوم، وستبتلع الشركات متعددة الجنسيات الحِرف الصغيرة ويتحول أربابها إلى رعايا للشركة قبل الدولة، وسيكون إعلان الخطط التنموية للحكومة كشفاً لعدد الوظائف التي ستستحدثها الشركات متعدد الجنسيات التي ستكون وزارة التشغيل الحقيقية. هذا الطور بحاجة إلى إدارة تحقق الغاية التي أتى من أجلها المحتل. حقيقة تنسحب على المحتل النازي لفرنسا وحكومة فيشي الدمية، وعلى المحتل الصهيوني، واتفاقيات أوسلو التي أرادت لمنظمة التحرير ذات الدور، وقد سد وضوح الرؤية لدى الشعب الفلسطيني مسد جيوش الحلفاء التي هبت لإسقاط حكومة فيشي وتحرير فرنسا. لابد لهذا الطور "الجراحي" من عنوان، ولا زال يعلق في الذاكرة عنوان تعلمناه ونحن صبية في المدارس وهو "العصملي" (أي العثماني) الذي كان نعتاً لكل ما يراد وصفه بالتخلف لمآرب مستترة. "سيختار المحتل لهذه العملية عنواناً ذكياًً، لن يكون هذا العنوانDe-Arabification ( إقصاء العروبة ) أو De-Islamification ( إقصاء الإسلام )، وإنما عنواناً سهلاً مشتقاً من مواجع الناس ومشاعرهم الملتهبة، ولن يكون هذا العنوان إلا thification‘De-Ba، لتكون كلمة "بعثي" عنواناً لخيانة عظمى مستتر معناها الحقيقي، وغاية يبرر استئصالها كل وسيلة، وتهمة لكل ناشط يعمل في الاتجاه المعاكس"(*). ها هم علماء العراق وأدمغته يصطادهم رصاص الموساد وإطلاعات (المخابرات الإيرانية )، والمليشيات المتحالفة مع إيران بشكل منظم الواحد تلو الآخر تحت هذه اللافتة وهم منها برآء. وقد ثُبّت الجرم المعنون "اجتثاث البعث" في الدستور، ليحدث عقدة ذنب وندب ثقافية مزمنة، وشخصية جماعية اعتذارية لدى المعنيين بهذه المقاصصة وهم العرب السنة، وقد آتى هذا الأسلوب السيكولوجي ثماره مع أجيال الشعب الألماني، التي لم تعد تفرق بين أمجاده وتفوقه وفروسيته وبين جرائم هتلر. الاحتلال الأمريكي وباتفاق الجميع غارق في هذا الطور إلى شحمة أذنيه، ومشتتة امكانياته بين التعامل مع المقاومة التي أنهكته عسكرياً وأحرجته محلياًً، وبين العثور على صيغة سياسية تحقق له مبتغاه، أو ما أمكنه إلى ذلك سبيلا. ولابد هنا من التأكيد على أن الواقع الذي انطلقت منه الإجراءات الأخيرة لهذا الطور المسماة "الانتخابات" لتشكيل الحكومة الدائمة، هذا الواقع محاطاً بجملة من الحقائق الميدانية، منها: أنه جاء مسبوقاً بشهرين فقط بأكبر عملية تزوير استفتاء على دستور، ومع ذلك مُرّر الدستور وأهملت الطعونات • أنه ظرف يبحث فيه الاحتلال بشكل يئوس عن صيغة "وطنية" تنوب عنه في تصريف شؤون البلاد وفقاً لتشريعات الحاكم الأمريكي المدني المنصرف بريمر• أنها انتخابات محدد فيها وبشكل مسبق سقف المقاعد التي تحصل عليها كل طائفة بغض النظر عن عدد الأصوات التي تحصدها • أن انعقادها باشتراك جميع فئات المجتمع هو إسباغ صفة الشرعية لاحتلال اتهم حتى اللحظة التي سبقت المشاركة الجماعية في الانتخابات بتمزيقه لنسيج المجتمع وإقصائه لكبرى فئاته السياسية • اضفاء صفة الشرعية على القوانين التي سنها الاحتلال وضمنها في الدستور وغير القابلة للتعديل • أن الانتخابات لا يمكن أن تتمخض عن أكثر من حكومة ائتلافية هشة يمكن إسقاطها في التوقيت المناسب. مهما كانت طبيعة حكومة "الوحدة الوطنية" التي يدفع باتجاهها الاحتلال، ومهما كانت نسب الطوائف الممثلة فيها، فإنها لن تكون سوى الآلية التي ستنجز السيناريو القاتم أعلاه. لكن السنة العرب شاركوا في الانتخابات الأخيرة، لا أملاً في أن تستعيد لهم نتائج الانتخابات الدولة المدنية التي أذهبتها المشاريع الانشطارية المذهبية والقومية، ولا لبث الروح من جديد في المفاهيم الحضارية العربية الإسلامية التي داست عليها أقدام الصفويين، وحرق تراثها، وإنما محاولة لاختزال الهيمنة المطلقة لحكومة الحوزة على الوزارات والأجهزة الأمنية وكف الأذى والتطهير العرقي والمذهبي الذي تمارسه أجنحة هذه الحكومة باسم الدولة والقانون. إن أفضل سيناريو لدى المحتل هو الإبقاء على خريطة العراق كما تظهر في أطالس الجغرافية، لكنه على أرض الواقع جثة هامدة لا حراك فيها، تعجز عن اتخاذ أتفه القرارات، وهو أنموذج لدول مشروع الشرق الأوسط الكبير المتعثرة دواليبه بعصي المقاومة العراقية. عند فراغ العراقي العربي السني أو من يشترك معه بالمفاهيم من العرب الآخرين والأكراد من قراءة هذه الأسطر، سيتمثّله القول الشعبي القائل: "الذي يتلقى العصي ليس كمن يحصي عددها"، وهو عين الحكمة. لكن ما تُقدم عليه النخب السياسية للسنة من قبول لفتات الموائد، لا يمكن أن يكون خيار الفئة التي أطلقت واحتضنت أشرس مقاومة ضد أعتى احتلال، وتمسكت ولا تزال بخيار عراق موحد مستقل. هذه الفئة التي أظهر مقاطعتها للانتخابات الأولى أنها الكتلة السياسية الكبرى وبنسبة 42% وأنها سليلة النظام السياسي التاريخي الذي حكم المنطقة وصاغ هويتها السياسية، ورسم شكل علاقاتها مع أمم الأرض الأخرى، هذه الفئة لا يمكن أن تصدق أن وصفة يضعها المحتل يمكن أن تفضي إلى التحرير المنشود. ما تلجأ إليه هذه النخب باعترافها هو تضميد لجراحات نازفة، ولا يمكن اعتباره رؤية استراتيجية. وإذا كان شح الأوراق السياسية هو العذر، وهو صحيح، فليبحث السنة في عمقهم الجغرافي الإقليمي عن أوراق جديدة، لاسيما بعد أن صرخ الآخرون من معاقلهم في فيدرالية الشيعة وفيدرالية كردستان وبشكل رسمي بنبأ وفاة الدولة الوطنية! (*) أي احتلال نرفض؟! ( مقال للكاتب 6/6/2003) معهد المشرق العربي وإيران[email protected]