فى عام 2009 بينما كان المالكى يهيئ الأجواء لحملة انتخابية جديدة أراد من خلالها التمسك بكرسى الحكم الذى جاء هو ومن معه ليقضوا على الديكتاتورية التى بقيت "عاضّة" على الكرسى طيلة العقود الماضية، ومن ضمن الإجراءات التى قدمتها حكومة المالكى إقامة حملات دعائية على تحسن الوضع الأمنى بفعل (الخطط المحكمة للحكومة)، كما دعى جميع العراقيين المهاجرين فى الخارج للعودة وقاموا بتقديم بعض العروض التشجيعية كإرسال طائرات لنقل العراقيين إلى بغداد مجانا.. وكان من ضمن من استغل هذه الرحلات المجانية أحد الأصدقاء؛ لكنه وبسبب ارتباطه بعمل خارج العراق اضطر للعودة مرة أخرى، بل هو لم ينوِ الاستقرار أصلا. وحين عودته اتصلتُ به مرحبًا وحامدًا الله على سلامة الوصول، وسألته عن الأوضاع الأمنية والاقتصادية وغيرها، فأجابنى بحفاوة وشغف - وكأنه أحد المرشحين فى قائمة (دولة القانون) - بأن العراق ليس كما كنا نسمع فى الأخبار من تفجيرات واغتيالات وتدهور فى الوضع الأمنى؛ وإنما الحياة جميلة والأمن مستتب والأسعار رخيصة والناس تعيش حياة هانئة "وتعيش الحكومة" على قولة عادل إمام. وحين ناقشته بأن هذه الأمور عبارة عن تمثيلية لذر الرماد فى العيون من قبل حكومة المالكى لإقناع الرأى العام بأنها حققت نجاحًا فى الملف الأمنى؛ لكن سرعان ما انقلب الحال وعاد الوضع إلى ما كان عليه فى غضون شهر أو شهرين، لم يقتنع "صاحبى" بكلامى واتهمنى بأنى صاحب نظرة سلبية تكونت من خلال أخبار كاذبة يروجها المعارضون للعملية السياسية فى العراق. فسألته إذاً لماذا لم تستقر فى العراق إذا كانت الأوضاع بهذه الجمالية التى تصفها؟ فأجابنى بأنه خرج من العراق باحثًا عن عمل، فقلت: ألا يكفى هذا أن يكون دافعًا لإدانة حكومة بلد يتربع على بحيرة من البترول بينما الإحصائيات تشير إلى أنه أصبح اليوم يملك أعلى معدلات البطالة فى المنطقة. وبعد مرور سنتين اتصل بى صاحبى نفسه بعد عودته من رحلة ثانية إلى العراق، وبعد السلام والتحية قال: أود أن أعتذر إليك عما كنا قد تكلمنا فيه قبل عن أوضاع العراق، فأنا نادم عن كل كلمة قلتها لأنى رويت لك ما كان ينقل لى من خلال الناس ولم أر الأشياء بعينى..أما فى رحلتى هذه فقد رأيت الوضع برؤية طائر- على حد تعبيره - فالوضع الأمنى سيئ جدًا، أما الوضع الأخلاقى والاجتماعى فليست هذه هى الناس التى تركناها قبل أن نغادر فلا الأخلاق كما عهدناها ولا الناس كما تركناها. قبلت اعتذار صاحبى واحترمت تواضعه بينما انتابنى حزن شديد وأنا أسمع هذه المعلومات التى هى أصلا غير غائبة عنى، لكننى أشعر بالألم والحسرة كلما فكرت بما حل بالعراق بعد على 2003 ..وتذكرت حينها موقفا لا يزال عالقًا فى ذاكرتى حين كنا نحرس شوارعنا وأزقتنا أثناء الحرب، وكان وقتها القصف شديد، فقلت لمن حولى كل هذا لا يخيفنى وإنما الذى يخيفنى ما بعد الحرب، وفعلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها.. بدأت عمليات الاغتيال والتصفية للكفاءات العراقية وتدمير حضارة البلد بقتل العلماء والمثقفين وحتى الفنانين والرياضيين فى خطوة الهدف منها مسخ ذاكرة هذا الجيل ونسف حضارته وثقافته ..وللأسف نجحوا فى ذلك بشكل أو بآخر، والآن كان لا بد أن تبدأ الخطة الثانية وهى فرض الثقافة البديلة وهى ثقافة الانحطاط الخلقى والتفسخ المجتمعى والابتعاد عن المثل والقيم التى تعتبر من مقومات المجتمع العراقى على مر العصور. فلقد شهدت الساحة العراقية فى الأونة الأخيرة فتح العديد من القنوات الفنية ذات الطابع الغنائى والموسيقى موجه بشكل رئيسى للشباب إناثا وذكورا مخصصة لتعرض كليبات غنائية فيها من المشاهد المخلة ما لم تعتد العائلة العراقية أن تدخل بيوتها فى يوم من الأيام فضلا عن الألفاظ الخادشة للحياة التى تميز تلك الأغانى. والمصيبة أن هذا النوع من الأغانى أصبح الشغل الشاغل للشباب والشابات ليلا ونهارا ..وأصبح أبطال تلك الكليبات نموذجًا للفن والرقى فى نظر المجتمع، وتم نسيان الفن العراقى الأصيل الذى ظل يمتع الأسماع طوال العقود الماضية. أصبحنا اليوم نخجل من فننا ومن أغانينا كما نخجل من أى شىء فى عراق اليوم بدءًا من السياسيين المفسدين والوزراء المزورين لشاهداتهم ومسئولين مفسدين وحتى المعممين الذى طوعوا الدين لمواكب رغبات الساسة والسياسيين. سلام على العراق وأهله..سلام على حضارته وفنه. كاتب وإعلامى عراقى