يلحظ من كلف نفسه عبء رصد جملة المتغيرات التي حدثت في العالم العربي منذ بدايات العام الحالي الذي أوشك أن يغادر الدنيا، جملة من المتغيرات اللافتة في مسيرة الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وهي الشعارات التي بدأ الترويج لها ورفعها كل الثوار في العالم العربي والذين أطلقوا نسائم الربيع العربي، بداية من تونس ومصر وليبيا وصولا إلى كل من سوريا واليمن .. أولى هذه المتغيرات: هي فوز حزب النهضة التونسي ذي التوجهات الاسلامية وحصوله على أغلبية ليست كاسحة ولكنها تؤشر على عودة الاسلاميين الى الحكم بموجب صناديق الاقتراع. حتى ولو من باب الائتلاف مع أحزاب غير اسلامية سواء كانت ليبرالية أو علمانية أو تحت أية مظلة .. وكأن دول الربيع العربي بدأت تقيم جيلاً جديدًا من النظم الإسلامية. ثانية هذه المتغيرات: هو ذاك الحراك الاسلامي الذي بدأ يغزو الأرض العربية والمجتمعات العربية، والذي يلفظ كل ماهو غير إسلامي، ولو من باب الشعارات والمناكفة السياسية كتيارات الليبرالية والعلمانية والحداثة وجملة الائتلافات التي ترفع دعاوى الدولة المدنية في مواجهة الدولة الدينية التي لم ينادي بها أحد. في حين بدا أن العالم العربي بدأ ينبذ الليبرالية، ومن ادعى بها، ورفعها في مواجهة الإسلامية. ثالثة هذه المتغيرات: هو ذاك الهلع الذي أصاب التيارات السياسية الأخرى المناوئة للتيارات الإسلامية الذين راحوا ينافقون مسيحيي مصر، والمهمشين، والفلول وكل المتخوفين من الإسلاميين الذين يملكون التنظيم والرؤية والمنهج. رابعة هذه المتغيرات: هي تلك التصريحات التي أطلقتها زعيمة الليبرالية في العالم، وهي التصريحات التي رحبت فيها هيلاري كلينتون بالحكم الإسلامي، والتي أعقبت تصريحاتها، ولو من باب مداراة الخجل الذي أصابها وأصاب كل من سار خلفها من ليبراليي الشرق .. شريطة الالتزام بالديموقراطية. وهاهي صحيفة "موسكوفسكيه نوفوستي" تشاركني الرأي بمقال جاء فيه أن الشعارات الديمقراطية في بلدان "الربيع العربي" استبدلت برايات خضراء. لقد فاز حزب النهضة التونسي في أول انتخابات بعد إطاحة الرئيس بن علي. كما تفيد استطلاعات الرأي أن الفائز في الانتخابات البرلمانية التي ستجري في مصر خلال شهر تشرين الأول/ نوفمبر، سيكون حزب "الإخوان المسلمين" الذي كان محظورًا الى وقت قريب بتهمة التطرف. وقد كان الدكتاتوريون خلال العقود الماضية يضخمون حجم خصومهم من الإسلاميين لتخويف الغرب، والحصول منه على دعم معنوي ومادي. ولذلك لا غرابة في أن الغرب استقبل نجاح الاسلاميين في بلدان "الربيع العربي" كإشارة تبعث على القلق. ومع ذلك ليس واضحًا حتى الآن الى أية درجة سيحدد الاسلام حياة الدول الديمقراطية الجديدة في هذه البلدان. ويعتقد الخبير في مركز الدراسات العربية والاسلامية لمعهد الاستشراق الكسندر ديمتشينكو أن ذلك سيتوقف بالدرجة الأولى على خاصيات التطور التاريخي، والوضع السياسي الراهن، ونجاحات عملية "التغريب" أو إخفاقاتها. ويستبعد الخبير عمليًا إمكانية قيام إيران أخرى في مصر أو تونس أو ليبيا، فالنموذج السياسي الذي يُنتخب فيه المرشد الأعلى للثورة الاسلامية من قبل مجلس الخبراء المكون من كبار العلماء المسلمين، وجد في إيران بسبب خاصيات المذهب الشيعي، بينما بلدان "الربيع العربي" سنية المذهب. إن عقودًا من حكم أنظمة علمانية في تلك البلدان لم تذهب سدى، فمن المستبعد أن يتقبل مواطنو البلدان الثورية قطع الأيدي على الجرائم الجنائية. ويؤكد الزعماء الثوريون، ويقسمون، على الولاء للقيم الديمقراطية. فالسلطات الجديدة في تونس مثلاً وعدت بتمثل النموذج التركي المعاصر، غير أن هذا الطريق مغلق أمامها على الأغلب.. ويداعب المصريون أيضًا النموذج التركي ولو من بعد .. وقد أراد الليبراليون المصريون إشغال الاسلاميين في مصر، بحكاية مثل لغز "البيضة ولا الفروج" بإطلاق شائعات الدولة المدنية في مواجهة الدولة الدينية التي لم ينادي بها أحد .. ولايعرفها أحد .. ولا حتى الذين لاكت ألسنتهم كلماتها دون معرفتها حقيقة ولكنه الكيد السياسي الذي برع فيه حملة شعار الليبرالية. ويقول الباحث في المعهد الفرنسي في اسطنبول لدراسات الأناضول، الاختصاصي في الشؤون الإسلامية جان ماركو، "إن تركيا العلمانية اليوم قائمة على مبدأ رقابة الدولة الصارمة على ديانة الأغلبية. وهذا النظام الخاص بتقييد السلطة الدينية اقترحه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أوردغان في مصر وتونس أثناء جولته الشرق أوسطية ويعتقد البروفيسور ماركو أن "النموذج التركي يحظى باهتمام البلدان العربية ما بعد الثورة، ويشكل عامل إلهام لها. وليس في ذلك ما يدعو للاستغراب. ولكن المستقبل سيبين إن كان هذا النموذج سيقدم فائدة لها أم لا؟ إن وضع المرأة في هذه البلدان سيغدو بمثابة الاختبار في هذا المجال". يرى الخبير الروسي ألكسندر ديمتشينكو أن مستقبل المنطقة في حال فوز الإسلاميين في بلدان المنطقة الرئيسية لن يكون مظلما ولا مخيفا. وإذا وصل الإخوان المسلمون في مصر إلى السلطة فسيشرعون بمكافحة تنظيم "القاعدة". والإسلاميون فضلا عن ذلك معنيون بالتعاون الاقتصادي مع الغرب، إذ سيكون عليهم بيع النفط والغاز والقطن، وخدمة السياح بغية تأمين قوت الشعب. هذا الكلام العاقل الذي أسوقه الآن .. هو ماسوف يحدث في مصر .. فعلام التخويف .. والتخوين .. وعلام التهويل والصراخ والعويل من بعبع ليس له وجود .. إلا في مخيلة من قاموا بالصراخ باستخدام كل وسائل الاعلام .. بما فيها استعداء المسيحيين المصريين على المستقبل. وباعتقادي "إن الإسلام السياسي يتعرض الآن لأهم امتحان في تاريخه، إذ كان في الماضي مضطرا للعمل كمعارضة في الظل، أما الإسلاميون اليوم فيواجهون مشكلة خلافاتهم الداخلية حول مهام المرحلة وسبل حلها". وعليهم أن يثبتوا أن التيارات السياسية الأخرى التي تحالفت وتآمرت على تاخير عودة الحياة المدنية في مصر، ويستقوون بالمجلس العسكري، وبأعداء مصر الذين لايريدون لها الخير .. في تأخير عملية التحول الديموقراطي .. وكأنهم يعز عليهم أن تحتل مصر مكانتها التي تستحقها، مخطئون فيما ذهبوا إليه .. خاصة في مناخ ملوث .. قوامه ترك فلول النظام السابق أحرارًا طلقاء، والمماطلة في محاكمة رموز النظام السابق، والفوضى الأمنية العارمة، وفتح أبواب الفراغ الاجتماعي كي يعبث به البلطجية ومن اشتراهم .. بعد أن باع مبارك وأركان حكمه لمصر على مدار ثلاثين عاما .. بصندوق فارغ .. ألقي مفتاحه في مياه الأطلسي بالقرب من الشواطئ الغربية لأمتنا العربية ....