يمنوننا بالانتخابات التشريعية لتشكيل المجلس النيابي، وكأننا عما قريب سنصبح دولة ديمقراطية. ألم يكن لدينا بالأمس مجلسان تشريعيان، بعمالهما وفلاحينهما، يتجددان كل خمس سنوات (تجديدا شكليا)، ورغم ذلك كان نظام الحكم أبعد ما يكون عن الديمقراطية، لم يكن ديكتاتوريا فحسب، بل وغير مخلص للبلد وللشعب، فقد خرب البلاد وأفسد الأخلاق. الديمقراطية الحقيقية- كما نعلمها جميعا- هي التي في ظلها لا يستبد فرد واحد بالرأي، ولا حتى طبقة واحدة برأيها. قياسا على ذلك فديمقراطيتنا المدعاة بالأمس- وربما غدا- فاسدة، فالرأي كان لديكتاتور تؤيده طبقة اللصوص الأثرياء. الديمقراطية الحقيقية لا تتحقق في وجود الفوارق الطبقية، ونعني بالفوارق على وجه الخصوص الفوارق في الحظوظ من الأموال، ومن التعليم والوعي. وكيف تتحقق والأغنياء قادرون على شراء أصوات الجوعى والمحتاجين، وقادرون على تجنيد المشردين اليائسين لإشاعة الذعر وإحداث فوضى تثير الرغام لتتعذر الرؤية، ومن ثم تمكنهم من الاستئثار بصناديق الانتخاب. كيف تتحقق الديمقراطية السليمة في مجتمع يتمتع أكثر من نصفه بالأمية الهجائية، ولا يعي من الأمر شيئا، وأكثر من نصف النصف الآخر مقوقع، مطأطئ الرأس لا يرفعها إلا عند التكبير في الصلاة. وكيف تتحقق الديمقراطية السليمة في مجتمع مفتت إلى أجزاء ثلاثة، سيناء المعزولة، الدلتا التي تحظى بما لا يحظى به الوادي- ثالث الأجزاء- من الرعاية والاهتمام. هذه الظروف ستأتي ببرلمان الأغنياء وأصحاب المصالح وسيصيغون ما يشاءون من قوانين تمكن لهم، وسيشاركون في وضع دستور يؤمنهم ويحميهم. ليس معنى كلامنا أننا ضد الانتخابات، وإنما ضد توقيت إجرائها، وكأن البلاد الآن تسلم إلى الذين نزحوا خيراتها وخربوها لينزحوا ما تبقى فيها. فالحال كما نرى قد تبدلت من بداية الثورة الشبابية إلى اليوم، كنا في البداية فرحين مستبشرين، ولكننا اليوم خائفون متوجسون، ومبعث الخوف والتوجس مصدران، الأول الأحداث المتلاحقة من قتل وخطف وترويع وهدم وتخريب، والمصدر الثاني ذلك التناطح والتنافر بين فئات الشعب، والفتيا الباطلة الظالمة في حق أخواننا في الوطن. ولا يظنن أحد أن الفوضى القائمة الآن في البلاد عشوائية... هى أبعد ما يكون عن العشوائية، نحن بصدد فوضى مقصودة، فوضى منظمة، منهجها أن تتناطح التيارات السياسية وغير السياسية التي نهضت من مراقدها بعد سبات طويل إلى أن يصفي بعضها بعضا ليؤول الأمر في النهاية إلى فئة بعينها، الله يعلمها. فجناحا القضاء على غير وفاق يخشى أن يفقدهما الوقار، والجامعات مهلهلة لا تقدر بوضعها الراهن على تحقيق المأمول منها، البناء الاجتماعي متصدع وآيل للسقوط، رموز النظام السابقون يستجمون في محابسهم،استقواء واستعلاء البعض على البعض، احتجاجات وانتفاضات مطالبة بعدالة التوزيع، إعلام انتهازي استفزازي، إشاعات لا تجد من ينفيها أو يؤكدها، البلد مفككة الأوصال والسلطة تائهة. قد يقال هذه حال المرحلة الانتقالية التي تعقب أي ثورة، وهذا صحيح، فقط نتمنى أن تكون فوضانا عشوائية وليست- كما يبدو- مخططة لتحقيق شئ في طي الكتمان ستكشف عنه الأيام قريبا. عزاؤنا أن مصر لن تضام، مصر تحرسها عناية الله.