من قال إن مشكلاتنا مستعصية، ويصعب إيجاد الحلول لها؟ لو كنت تريد أن تتعرف على وصفة مركزة لنتمكن من هزيمة الفقر، وصناعة المستقبل لمصر بعد الثورة، فلترافقني في هذه الرحلة إلى أقصى الشرق. إذا كان قد سبق لك زيارة ماليزيا، ووقفت مشدوهًا ومنبهرًا بتلك الصورة العصرية التي تبدو عليها اليوم، فمن الصعب عليك أن تتصور أن هذه الدولة كانت تعاني قبل ربع قرن فقط من التخلف الشديد، بسبب ما كانت تشهده من صراعات بين أعراق البلد ودياناته المختلفة (الأغلبية المسلمة تمثل نحو 55% من السكان وتتوزع النسبة الباقية بين هندوس ومسيحيين وبوذيين)، بالإضافة إلى تدني الأداء الاقتصادي بشكل واضح، وسوء استغلال الموارد وتوزيع الثروات، فكان الناتج المحلي الإجمالي لها يعادل دولاً مثل "هايتي" و"هندوراس"، وأدنى من الناتج المحلي الإجمالي لمصر وغانا بحوالي 5%. كانت بداية الانطلاق لإحداث هذا التغيير السريع بعد تولي "مهاتير محمد" رئيس الوزراء السابق مقاليد الحكم في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تبنى برنامجًا جادًا لتنمية ونهضة ماليزيا، امتلك "مهاتير" الإرادة السياسية الحقيقية للتغيير.. فكان له ما أراد، تضاعف دخل ماليزيا إلى 8 أمثال الدخل في غانا، وأكثر من خمسة أضعاف دخل هندوراس، وأكثر من ضعفي ونصف الدخل في مصر، من يذهب إلي ماليزيا الآن سيتردد أمام بصره وسمعه كثيرًا رقم 2020، الذي يرمز إلي الخطة التي أعدها "مهاتير"عندما تولى الحكم سنة 1981 ( نفس السنة التي تولى فيها الرئيس السابق مبارك)، والتي تقوم علي فكرة أن تصبح ماليزيا في العام 2020 الدولة الخامسة اقتصاديًا على مستوى العالم ، وهو ما تحقق الكثير منه، ويمكن تلخيص هذه الإرادة في جملة قالها "مهاتير" لعالمنا الدكتور"أحمد زويل": (الشيء الوحيد الذي قدمته لبلادي هو: أيها الماليزي ارفع رأسك ناظرًا للمستقبل) بدأت الحكومة الماليزية في عهد "مهاتير" تطبيق سياسات للتنمية الشاملة، تقوم فلسفتها على أساس أن النمو الاقتصادي يجب أن يقود إلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الدخل، ومن خلال هذه الفلسفة استطاعت تقديم النموذج الأفضل عالميًا لحل أصعب المعادلات، وذلك بتحقيق النمو الاقتصادي مع محاربة الفقر، فأصبحت في مصاف الدول المتقدمة صناعيًا، واحتلت الترتيب الخامس عالميًا من حيث قوة الاقتصاد المحلى وفقًا لتقارير الأممالمتحدة، وتاسع دولة مصدرة للتقنيات العالية، لتسبق دولاً مثل إيطاليا والسويد، وفي نفس الوقت فقد استطاعت ماليزيا خلال الثلاثة عقود الأخيرة تخفيض معدل الفقر من 52.4% إلى 3.6%، كما تم القضاء على الفقر المدقع نهائيًا، وذلك على الرغم من تعديل تعريف خط فقر الدخل عام 1986 ليصبح حوالي 156 دولارًا أمريكيًا في الشهر، ويأخذ في حسبانه إلى جانب احتياجات الحياة الضرورية من الغذاء، ما يجب أن يحصل عليه الفقراء من الملكية العقارية وصافي التحويلات المالية، وذلك حتى يعكس المؤشر الأبعاد المتعددة لطبيعة الفقر. اللافت للنظر أيضًا في التجربة الماليزية، هو السياسة الضريبية التي أخذت بعداً اجتماعياً يستفيد منه الفقراء؛ وذلك بتأكيد مبدأ التصاعدية في ضريبة الدخل، حيث يبلغ الحد الأدنى من الدخل الخاضع للضريبة حوالي 658 دولار في الشهر، وتؤخذ الضريبة بعد خصم أقساط التأمين الصحي، وعدد الأطفال، ونفقات تعليم المعوقين من الأطفال، ومن يعول من الوالدين، ومساهمة صندوق التأمين الإجباري، كما أن الدولة شجعت المواطنين المسلمين (أفرادًا وشركات) على دفع الزكاة لصالح صندوق جمع الزكاة القومي، الذي يدار بواسطة إدارة الشؤون الإسلامية، في مقابل تخفيض نسبة ما يؤخذ من ضريبة الدخل. تعاملت ماليزيا مع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بحذر شديد حتى منتصف الثمانينيات، ثم سمحت لها بالدخول ولكن ضمن شروط تصب بشكل أساسي في صالح الاقتصاد الوطني، فيجب ألا تنافس السلع التي ينتجها المستثمر الأجنبي الصناعات الوطنية التي تشبع حاجات السوق المحلية، كما يجب أن تصدر الشركة 50% على الأقل من جملة ما تنتجه، أما الشركات الأجنبية التي يصل رأس مالها المدفوع نحو 2 مليون دولار، فيسمح لها باستقدام خمسة أجانب فقط لشغل بعض الوظائف في الشركة، وهذا يوضح لنا جانب آخر من أسباب نجاح تجربة مكافحة الفقر في البلاد، والمتمثل في القدرة على توفير عدد هائل من الوظائف الجديدة، فبينما تعاني أغلب بلدان العالم من البطالة؛ كانت ماليزيا تستقدم العمالة من الخارج، وخلال الخمسين عاماً الماضية نجحت الدولة في خلق أكثر من 9 ملايين فرصة عمل، لتنخفض نسبة البطالة إلى 3%، وهذا ساعد أيضًا في ارتفاع الدخل العام للأسرة في ماليزيا عشرة أمثال ما كان عليه في بداية عهد مهاتير، ليصل حاليًا متوسط دخل الفرد إلى أكثر من 16000 دولار سنويًا. إذا كان هناك من يظن أن التبعية الكاملة للموقف الأمريكي والإسرائيلي هي السبيل الوحيد للنجاح السياسي والاقتصادي، فالتجربة في ماليزيا تثبت عكس ذلك تمامًا، فهي لا تقيم علاقات مع إسرائيل، وهى وإن كانت تحتفظ بعلاقات جيدة مع الولاياتالمتحدة، إلا أن ذلك لم يمنعها من الاستقلالية الكاملة عن البيت الأبيض، فمواقف ماليزيا الاقتصادية في منتهى الجرأة، حيث كان "مهاتير" أول من نادى بفك ارتباط عملات الدول العربية والإسلامية بالدولار، والتوقف عن اعتماده عملة وحيدة لتسعير النفط، وهناك تجربة مثيرة بدأت في ماليزيا منذ منتصف عام 2003 باستخدام الدينار الذهبي الإسلامي في مجال تجارتها الخارجية مع بعض الدول، بدلاً من الدولار الأميركي، بهدف جعل الدينار عملة موحدة لتسوية التعاملات التجارية بين الدول الإسلامية، وهى تجربة حققت نجاحًا ملموسًا، حيث يتم حاليًا تداولها في العديد من دول العالم، وتنمو نسبة المتعاملين بمعدل 10% شهريًّا، كما يتضاعف العدد كل عام تقريبًا. هل تحقيق النجاح ممكن؟.. الإجابة بدون شك هي.. نعم، فنحن نملك من الإمكانيات البشرية والمادية ما يؤهلنا لنحقق أكثر بكثير مما نتخيل، وأبرهن على ذلك بمقتطفات من كلام "مهاتير" عندما سئل عن توقعاته للنجاح فقال: ( لم أعلم كم سيستغرق من الوقت، أنا فوجئت شخصيًا بأن الأمر استغرق وقتًا قصيرًا، ولكن الحقيقة تبقى.. سواء استغرقت وقتًا طويلاً أم قصيرًا عليك أن تبدأ، فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة." [email protected]