تراجع سعر الدولار أمام الجنيه اليوم في البنوك    التموين تكشف موعد عودة البطاقات المتوقفة بسبب ممارسة الكهرباء    شروط مهينة، إسرائيل قدمت طلباتها لواشنطن لإنهاء الحرب في لبنان    ترحيل كهربا من بعثة الأهلي في الإمارات وخصم مليون جنيه من مستحقاته    15 صور لاحتفالات لاعبي الزمالك مع زوجاتهم بالفوز على بيراميدز    طقس اليوم: مائل للحرارة نهارا ومعتدل ليلا.. والعظمى بالقاهرة 29    علي جمعة يكشف حياة الرسول في البرزخ    صندوق الإسكان الاجتماعي يكشف شروط الحصول على شقة في الإعلان الجديد (فيديو)    بكام الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم الإثنين 21 أكتوبر 2024    الصحة: تقديم الخدمة لأكثر من 2.4 مليون حالة بقوائم الانتظار    فصائل عراقية تعلن شن هجوم على موقع عسكري إسرائيلي في الجولان    الزمالك ينتقد مستوى التحكيم في مباراة بيراميدز.. ويحذر من كارثة بنهائي السوبر.. عاجل    اللواء وائل ربيع: بيان الخارجية بشأن فلسطين قوي وجاء في توقيت مناسب    مقتل سائق «توك توك» بسبب خلافات الأجرة بعين شمس    حظك اليوم برج القوس الاثنين 21 أكتوبر 2024.. مشكلة بسبب ردود أفعالك    علي الحجار يستعد لتقديم موهبة جديدة في حفله بمهرجان الموسيقى العربية    أبرزهم هشام ماجد ودينا الشربيني.. القائمة الكاملة للمكرمين في حفل جوائز رمضان للإبداع 2024    عمرو مصطفى يكشف ذكرياته مع الراحل أحمد علي موسى    المتحف المصري الكبير يفتح أبواب العالم على تاريخ مصر القديمة    مشعل يرثي زعيم حماس يحيى السنوار.. ماذا قال؟    هل النوم قبل الفجر بنصف ساعة حرام؟.. يحرمك من 20 رزقا    «زي النهارده».. تدمير وإغراق المدمرة إيلات 21 أكتوبر 1967    طريقة عمل الكريم كراميل، لتحلية مغذية من صنع يديك    حادث سير ينهي حياة طالب في سوهاج    ناهد رشدي وأشرف عبدالغفور يتصدران بوسترات «نقطة سوده» (صور)    المندوه: السوبر الإفريقي أعاد الزمالك لمكانه الطبيعي.. وصور الجماهير مع الفريق استثناء    الاحتلال الإسرائيلى يقتحم مدينة نابلس بالضفة الغربية من اتجاه حاجز الطور    حسام البدري: إمام عاشور لا يستحق أكثر من 10/2 أمام سيراميكا    إصابة 10 أشخاص.. ماذا حدث في طريق صلاح سالم؟    6 أطعمة تزيد من خطر الإصابة ب التهاب المفاصل وتفاقم الألم.. ما هي؟    «العشاء الأخير» و«يمين في أول شمال» و«الشك» يحصدون جوائز مهرجان المهن التمثيلية    إغلاق بلدية صيدا ومقر الشرطة بعد التهديدات الإسرائيلية    هيئة الدواء تحذر من هشاشة العظام    نقيب الصحفيين يعلن انعقاد جلسات عامة لمناقشة تطوير لائحة القيد الأسبوع المقبل    قودي وذا كونسلتانتس: دراسة تكشف عن صعود النساء في المناصب القيادية بمصر    أحمد عبدالحليم: صعود الأهلي والزمالك لنهائي السوبر "منطقي"    حزب الله يستهدف كريات شمونة برشقة صاروخية    مزارع الشاي في «لونج وو» الصينية مزار سياحي وتجاري.. صور    للمرة الرابعة تواليا.. إنتر يواصل الفوز على روما ولاوتارو يدخل التاريخ    واحة الجارة.. حكاية أشخاص عادوا إلى الحياه بعد اعتمادهم على التعامل بالمقايضة    تصادم قطار بضائع بسيارة نقل في دمياط- صور    كيف تعاملت الدولة مع جرائم سرقة خدمات الإنترنت.. القانون يجب    هل كثرة اللقم تدفع النقم؟.. واعظة الأوقاف توضح 9 حقائق    ملخص مباراة برشلونة ضد إشبيلية 5-1 في الدوري الإسباني    تصادم قطار بضائع بسيارة نقل ثقيل بدمياط وإصابة سائق التريلا    حبس المتهمين بإلقاء جثة طفل رضيع بجوار مدرسة في حلوان    النيابة تصرح بدفن جثة طفل سقط من الطابق الثالث بعقار في منشأة القناطر    النيابة العامة تأمر بإخلاء سبيل مساعدة الفنانة هالة صدقي    نجم الأهلي السابق: هدف أوباما في الزمالك تسلل    وفود السائحين تستقل القطارات من محطة صعيد مصر.. الانبهار سيد الموقف    قوى النواب تنتهي من مناقشة مواد الإصدار و"التعريفات" بمشروع قانون العمل    نائب محافظ قنا يشهد احتفالية مبادرة "شباب يُدير شباب" بمركز إبداع مصر الرقمية    عمرو أديب بعد حديث الرئيس عن برنامج الإصلاح مع صندوق النقد: «لم نسمع كلاما بهذه القوة من قبل»    «شوفلك واحدة غيرها».. أمين الفتوى ينصح شابا يشكو من معاملة خطيبته لوالدته    جاهزون للدفاع عن البلد.. قائد الوحدات الخاصة البحرية يكشف عن أسبوع الجحيم|شاهد    بالفيديو| أمين الفتوى: لهذا السبب يسمون الشذوذ "مثلية" والزنا "مساكنة"    مجلس جامعة الفيوم يوافق على 60 رسالة ماجستير ودكتوراه بالدراسات العليا    جامعة الزقازيق تعقد ورشة عمل حول كيفية التقدم لبرنامج «رواد وعلماء مصر»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلال فضل يكتب: «طبعًا للظلم نهاية.. المشكلة أننا قد لا نشهدها»!
نشر في المصريون يوم 25 - 04 - 2015

بعد قراءة هادئة لما استطعت إليه سبيلًا من وقائع التاريخ، قراءة متجردة من العواطف والشعارات و”الكلام الكبير”؛ ستدرك فعلًا أن “الظلم لا يدوم وأن لكل ظالم نهاية”، لكن ربما كان لُبّ المشكلة في هذه الحياة الدنيا، أننا أيضًا كبشر لا ندوم؛ ولذلك لا نشهد نهاية الظلم إلا إذا كنا محظوظين، وهو ما يجعل التحدي المطروح على كل من يقاوم الظلم أو حتى يرفضه دون مقاومة، أمرًا لا علاقة له بتفاؤله أو بتشاؤمه، ولا ببحثه عن النهاية السعيدة أو يأسه من مجيئها، وإنما مرتبطًا بقدرته على مقاومة الظلم أو رفضه، دون أن يربط ذلك برؤيته لنهاية الظالمين على حياة عينه، ومشاهدته للعدل وهو يتحقق في الكون، إن سلمنا جدلًا أن هناك إمكانية لتحقق عدل كامل قبل أن تتوقف الأفلاك عن الدوران.
لم يكن الشاعر المصري الشعبي ابن عروس مبالغًا أو متحمسًا أو متمنيًا للمستحيل، حين قال قولته التي صارت عزاءً للمظلومين عبر السنين: “لا بد من يوم معلوم.. تترد فيه المظالم.. أبيض على كل مظلوم.. إسود على كل ظالم”؛ لأننا سندرك من مطالعة الكثير من وقائع التاريخ أن هناك نهاية تعيسة تحل بكل ظالم، بشكل أو بآخر، إما في حياته أو بعد مماته بسنين أو قرون، لتمنع تخليده بالشكل المشرق الذي تمناه، لكن تلك النهايات على اختلاف أشكالها، لا يشهدها سوى المحظوظين من المظلومين، وهم قليل على أية حال، لكن العدالة في كل الأحوال، سواءً جاءت في موعدها المرتقب، أو بعد فوات الأوان، لم تهبط على الأرض كمنحة مجانية من السماء؛ بل تحققت حين سعى إليها من قاوموا الظلم ورفضوه وأنكروه، أو حتى حافظوا على الذاكرة التي ترفضه، ولا تتسامح مع تبريره؛ وبدون ذلك لم يكن ممكنًا، أن تتحقق نهاية ما للظلم، وبذلك أيضًا أصبح لحياة الذين قاوموا الظلم معنى، حتى ولو لم يشاهدوا بأعينهم، كيف احتفت الأجيال التي تلتهم بمقاومتهم للظلم، وجعلت منهم نماذج للاحتفاء والتقدير، وقد كان ذلك أفضل لهم من أن يعيشوا عمرًا طويلًا في حياة لا معنى لها، خصوصًا وهم يعيشون في أوطان لا تضمن البهجة والسعادة والرخاء، لمن يسكت عن الظلم ويبرره ويؤيده، فهي تجعل أنصبة الشقاء والتعاسة محفوظة ومضمونة للكافة.

وإن شئت أمثلة على ذلك، ستجد في السطور التالية غيضًا من فيض، لا يسعى إلى أن يمدك بالأمل؛ بل إلى تذكيرك بعبثية انتظار الأمل، إن كنت تدافع حقًا وصدقًا، عن قيم ومبادئ تتمنى لها أن تغير حياة بلادك إلى الأفضل، كما تغيرت الحياة قليلًا أو كثيرًا، في بلاد كثيرة يئس أهلها من تحقق العدالة أبدًا:

دعنا نبدأ من تركيا مثلًا، ولعلك إن سألت فيها أي مواطن على قدر من الاطلاع والثقافة، عن أشهر وأهم شاعر في تاريخ تركيا الحديث؛ لأجابك على الفور أنه الشاعر الكبير ناظم حكمت، الذي كان واحدًا من أشهر الذين أفنوا حياتهم في مقاومة الظلم، دون أن يدركوا نهايته، وحين وافته المنية عام 1963 كان يبدو أنه قد خسر المعركة تمامًا، فقد مات غريبًا عن بلاده محرومًا من جنسيتها، التي لم تتم إعادتها إليه إلا بحكم قضائي بعد نصف قرن من موته في المنفى، الذي عاش فيه سنوات لم يتجاوزها في العدد، إلا السنوات التي عاشها سجينًا في معتقلات إسطنبول وأنقرة وبورصه، ولم يخرجه من سجنه إلا الضغوط الدولية المتوالية، التي جعلت عسكر تركيا يقررون نفيه إلى خارجها للتخلص من الصداع الذي سببه لهم حبسه المستمر، مع حرصهم على منع أشعاره ومصادرتها وتجريم كل من ينشرها أو يحملها، ولم يبدأ بيعها بشكل طبيعي في المكتبات التركية إلا في عام 1990.

لكن، نفي ناظم وحبسه ومصادرة كتبه، لم يمنع أشعاره من الوصول إلى الناس، فقد كان عشاقه يقومون بنسخ أعماله في دفاتر صغيرة، كان الآلاف يتناقلونها خفية بأعداد مهولة، واليوم أصبحت تلك الدفاتر المهرّبة وثائق تاريخية، تحتفظ بها أربعة مراكز ومتاحف تحتفظ بأعمال ناظم حكمت وتخلد سيرته، أحدها في إسطنبول التي مات محرومًا منها، وثانيها في موسكو حيث عاش لسنوات، فصار منزله متحفًا يجاور مقبرته التي دفن فيها حسب طلبه، وثالثها في العاصمة الهولندية أمستردام حيث يحتفظ المعهد التاريخي الاجتماعي بالعديد من الوثائق التي تخصه، وعلى رأسها ملفاته في المخابرات السوفيتية التي لم تكن تثق فيه أبدًا؛ بالطبع لأنه شاعر، ورابعها في مركز بالعاصمة الفرنسية باريس، أودعت فيه صديقة ناظم ومترجمة أعماله غوزين دينو كل وثائقه الشخصية، في حين لا ترد أسماء القادة العسكريين والأمنيين الذين اعتقلوه ونفوه وجعلوا حياته جحيمًا؛ إلا واقترنت بالخزي والعار، وهو أمر إن لم يجعل حياة ناظم حكمت أسعد ولا أقل عذابًا، فقد بات بالتأكيد يعني الكثير للأجيال المتعاقبة التي تحفظ أشعاره، وتستلهم سيرة نضاله حتى الآن، ليس في تركيا وحدها، بل عبر العالم كله.

من تركيا إلى ألمانيا، التي ظهر فيها فيلم جديد يحكي قصة مقاومين للظلم تأخرت نهايتهم السعيدة طويلًا، يقدمه المخرج الألماني أوليفر هرشبيغل، الذي سبق له أن قدم فيلم “داون فول” الشهير عن الأيام الأخيرة للزعيم النازي أدولف هتلر، في فيلمه الجديد يحكي هرشبيغل سيرة مجموعة من معارضي النازية كان يقودهم جورج ألسر، حاولوا عام 1939 اغتيال هتلر بعبوة ناسفة، لكن هتلر ترك المكان قبل 13 دقيقة من الانفجار، ليتم القبض على ألسر الذي كان يبلغ من العمر وقتها 42 عامًا، ويتم قتله في معسكر اعتقال داشاو، وبرغم هزيمة هتلر ونهاية الحرب، بقي ألسر في الظل لفترة طويلة، حتى اعترفت الدولة الألمانية ببطولته في عام 2003، حين وضعت صورته على طابع بريدي، بصحبة عبارة تقول: “أردت أن أمنع حدوث الحرب”، ولم يكن جورج ألسر المعارض الوحيد الذي أعيد له الاعتبار رسميًا بعد رحيله، فقد أقيم في عام 2009، نصب تذكاري للجنود الألمان المنشقين على هتلر وقياداته، والذين تم وصفهم بالخيانة وقتها، ودفعوا حياتهم ثمنًا لذلك الانشقاق؛ ليتضح أنهم كانوا أكثر وطنية من الذين صفقوا للسياسات النازية المجنونة التي دمرت ألمانيا وجلبت لها الخزي والعار، ولعلك تتأمل كيف أن الاحتفاء العالمي بصورة المواطن الألماني الذي رفض أن يؤدي تحية النازية وسط قطعان المهللين لهتلر والمفوضين له، أصبح مدعاة للاحتفاء الدائم بسيرة المواطنين الألمان الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لرفضهم سياسات هتلر، وكان من بينهم طالبة اسمها صوفي شول، التي تم قطع رأسها بسبب توزيعها منشورات ضد الحرب وضد هتلر، وكانت كلماتها الأخيرة قبل المقصلة: “يا للحزن، يوم بهذا الجمال، وبهذه الشمس، ويكون علي أن أغادر”.

في مشروعه لإحياء الذاكرة البشرية ضد الظلم والقمع، قام كاتب الأوروغواي العظيم إدواردو جاليانو في العديد من كتبه، برواية سير العديد من مقاومي ومقاومات الظلم عبر التاريخ، الذين لم يُكتب لهم أن يعيشوا ليروا، كيف صاروا نماذج بشرية ملهمة، لا يجرؤ عاقل على التقليل من عطائها وتضحياتها، خذ عندك مثلًا الأيقونة الثورية روزا لوكسمبورغ التي تم اغتيالها في برلين عام 1919، حيث تم تهشيم عظامها بأعقاب البنادق، وألقي بها في مصرف مياه، لتسقط فردة حذاء من إحدى قدميها، لكن ما بقي منها كما يقول غاليانو، لم يكن فردة حذائها فقط، وهو ما حدث قبلها بحوالي خمسمئة عام، وبالتحديد في 30 مايو 1431، حين قررت الملكية الفرنسية والكنيسة الكاثوليكية إحراق جان دارك التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها، في محرقة نصبت في السوق القديمة بمدينة روان، يومها ألبسوها قبعة كبيرة جدًا كتبوا عليها: “هرطوقية مجرمة مرتدة وثنية”، وبعد إحراقها ألقي رمادها في نهر السين من أعلى أحد الجسور، على أمل أن تتبدد ذكراها إلى الأبد، لكن سيرة جان دارك عاشت أضعاف السنوات التي عاشتها صاحبتها على الأرض.

في عام 2009، تقدمت الحكومة البرازيلية باعتذار إلى المواطن باولو فريير الذي يلقبه جاليانو ب “نبي التعليم التعاوني”، لكن باولو لم يكن حيًا لكي يقبل الاعتذار، الذي حاولت به الحكومة المنتخبة، أن تعتذر عن جرائم الديكتاتورية العسكرية التي سجنته لسنوات عديدة، وبعد ضغوط دولية قامت بطرده من البلاد ومنعه من العودة، كل ذلك لأنه قرر أن يرتكب جريمة شنعاء، هي محو أمية الآلاف من عمال السكر في مدينة بيرنامبوكو، “لكي يكونوا قادرين على قراءة العالم والمساعدة على تغييره”، بادئًا تلك الدروس تحت شجرة مجاورة للمصنع، قبل أن يتعاظم تأثيرها ويصبح مزعجًا للعسكر ودليلًا على فشلهم، ليقرروا طرده من البلاد التي يوجد بها الآن 340 مدرسة برازيلية تحمل اسمه.

وفي بيرو، لم ينجح العسكر في محو السيرة العطرة التي حظي بها هوغو بلانكو أبرز ناشط لمناصرة حقوق السكان الأصليين، والذي كانت جريمته هي تنظيم نقابات للفلاحين، ليدفع ثمن ذلك الاختيار الإضراب والتعذيب والسجن والمضايقة من “المواطنين الشرفاء الموالين للعسكر” وأخيرًا النفي، وحين قام خلال إحدى فترات سجنه بتنظيم 14 إضرابًا عن الطعام، وساءت حالته الصحية، ولم يعد قادرًا على تحمل المزيد، أرسلت إليه الحكومة المتأثرة لحاله، هدية لم تكن سوى تابوت خشبي، ولا أظن أن الجنرال الذي أرسل له التابوت، كان يتصور وهو غارق في ضحكه وقتها، أن تصرفه ذلك سيصبح مثارًا للعنات لا تنتهي، ومدعاة لفخر لا ينتهي بهوغو بلانكو إلى الأبد.

في الأرجنتين، قرر قادة الديكتاتورية العسكرية التخلص من أطفال الأمهات اليساريات بشكل رأوه جذريًا وحاسمًا، فتم تطبيق “الخطة كوندور” التي أرسلت فيها الأمهات الحوامل من الأرجنتين إلى أوروغواي؛ حيث كان يتم قتل الأمهات بعد الولادة، وإهداء المواليد إلى المحاسيب، ليتم أكثر من 500 طفل جرى توزيعهم كغنيمة حرب، بعد قتل أمهاتهم اللاتي لم يعلم أحد هل تم دفنهن، أم أنهن انضممن إلى آلاف المفقودين الذين تم إغراقهم في مياه البحر، وفي 14 يونيو 1982 خسر جنرالات الأرجنتين الحرب مع بريطانيا، برغم حملات الكذب الإعلامي الرهيبة، ووقتها لم يكن أحد يصدق حتى معارضو الجنرالات، أنه سيأتي اليوم الذي سيرون فيه قادة البلاد خلف أقفاص المحاكمة، بتهمة إخفاء آلاف المواطنين، كان من بينهم الطالبة سيلفيا برودي التي اتهمها البوليس بأنها “محتجة مشاكسة”، سيسيليا أقرب صديقاتها تقدمت لتدلي بشهادتها في المحكمة عام 2008، متحدثة عن التعذيب الذي تعرضت له في ثكنة عسكرية، معترفة أنها هي من أعطت العسكر اسم سيلفيا، بعد أن لم تعد قادرة على تحمل مزيد من التعذيب طيلة الليل والنهار، وعند خروج سيسيليا من المحكمة اقترب منها صحفي وسألها: “وما الذي فعلته لكي تبقي على قيد الحياة بعد ذلك”، فردت عليه: “ومن قال لك إنني على قيد الحياة”.

لم يطو النسيان اسم سيلفيا برودي، بل بُعِث إلى الحياة من جديد، ومعه أسماء آلاف الشباب والشابات الذين اختفت آثارهم تمامًا، والذين يروي لنا غاليانو قصة أحدهم، وهو أوسكار لينيرا الذي كان سجينًا في ثكنة عسكرية مع صديقه بييرو دي مونتي الذي كان له حظ البقاء حيًا، ليروي أن كلمات أوسكار الأخيرة قبل اقتياده إلى الغرق في البحر كانت: “لدي ما أقوله، أتعلمون شيئًا، أنا لم أمارس الحب قط، وهم سيقتلونني الآن، دون أن أكون قد عرفت هذا الشيء”، لتؤدي تلك المحاكمات إلى إصدار سلسلة من الأحكام على ضباط سابقين تورطوا في قضايا قتل وتعذيب، دون أن يتوقف القضاء عند كون بعض المتهمين في تلك القضايا يبلغ من العمر 84 عامًا و81 عامًا، كما حدث على سبيل المثال في قضية قتل باحثة ألمانية كانت متعاطفة مع المعارضين؛ حيث تم سجن الضابطين اللذين قتلاها هي وعددًا من المعارضين في نفس السجن الذي شاركا فيه بتعذيب 2500 معارض بين عامي 1976 و1978، في حكم نزل بردًا وسلامًا على الكثير ممن تخيلوا أن العدالة لن تنزل على سماء الأرجنتين أبدًا.

قبل شهرين فقط، أصدرت محكمة بوينس آيرس حكمًا بالسجن المؤبد على أربعة عسكريين قاموا في سبعينيات القرن الماضي باختطاف وتعذيب ثلاثة فنانين معارضين، هم إكتور أوستريلد أشهر رسام كاريكاتيري في تاريخ الأرجنتين، والكاتب الروائي أرولد كونتي، والسينمائي ريموندو جليثير، ضمن أكثر من مئتي معارض سياسي تعرضوا للخطف والاحتجاز بمركز اعتقال سري يقع خارج العاصمة، أما الجناة الذين أدانتهم المحكمة فهم مأمور مركز الاعتقال السابق وثلاثة من العسكريين سيبقى اثنان منهما تحت الحجز المنزلي؛ لأنهما تخطيا السبعين عامًا ويمران بظروف صحية سيئة، ومع ذلك لم تعفهم العدالة من مواجهة تبعات أفعالهم الوحشية، وفي نفس الفترة نُشر في البرازيل وبعد طول انتظار، تقرير لجنة الحقيقة التي تم تشكيلها عام 2011 للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان خلال الحكم العسكري للبرازيل في الأعوام من 1964 إلى 1985، والذي لم يكتف بتوصيات لذر الرماد في العيون كما يحدث في تقارير لجان “تخصّي” الحقائق لدينا، بل قام بتحديد 377 مسؤولًا تورطوا في الانتهاكات في تلك الفترة، ودعا إلى محاكمتهم جنائيًا في تحدٍ واضح لقانون العفو العام الذي صدر في ظل حكم العسكر عام 1979 ليضمن حماية مستقبلية للمسؤولين عن تلك الجرائم.

في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أواسط القرن التاسع عشر، قام المواطن الأبيض جون براون، بتصرف جعله يعتبر خائنًا لعرقه وطبقته، حين سطا على ترسانة عسكرية في ولاية فيرجينيا، كي يقدم أسلحة لعبيد المزارع، وحين قامت فرقة عسكرية بمحاصرة براون والقبض عليه، تم ترقية قائدها الكولونيل روبرت لي إلى رتبة جنرال، ليقود بعد فترة قصيرة الجيش الذي دافع عن العبودية خلال حرب الجنوب الطويلة ضد شمالي الولايات المتحدة، وحين انتهت الحرب بالهزيمة، تم تسريح الجنرال لي من الخدمة، ليموت في فراشه مجللًا بالعار، هو وكل من حاربوا في تلك الحرب التي كانت تبدو بطولية لهم بالتأكيد، أما براون صديق العبيد، فقد أدين لهجومه على ترسانة السلاح بتهم القتل والتآمر وخيانة الدولة، ومات مشنوقًا عام 1859، في يوم أصبح بالمصادفة يومًا لمناهضة العبودية، يحتفل به الملايين بفضل جون براون والآلاف من أمثاله الذين لم يستسلموا لرغبات الجموع، وقرروا أن يدافعوا عن مبادئهم أيًا كان الثمن.

بعدها بأعوام، وفي 19 نوفمبر 1915، أعدم رميًا بالرصاص في مدينة سالت لايك سيتي، المواطن جو هيل الذي تم اعتباره محرضًا أجنبيًا؛ لأنه اقترف خطيئة تأليف الأغنيات التي ترافق المظاهرات العمالية في الولايات المتحدة، ولم يجد جو هيل ما يرد به على تهمته المميتة سوى أن يطلب في ليلته الأخيرة من رفاقه ألا يضيعوا الوقت في البكاء عليه، كاتبًا هذه الكلمات الملهمة: “رغبتي الأخيرة سهلة القول؛ لأني لم أخلف ثروة يمكن اقتسامها، حريتي هي كل ما تبقى، فالحجر المتدحرج لا تتوالد عليه الطحالب“.

بعدها بأعوام وفي 19 ديسمبر 1919، تم نفي 250 أجنبيًا من الولايات المتحدة، بعد اعتبارهم أشخاصًا غير مرغوب فيهم، كان من أهمهم المناضلة إيما جولدمان التي سجنت عدة مرات قبل نفيها، لتنظيمها إضرابات وتوزيعها وسائل منع الحمل ولمعارضتها الخدمة العسكرية الإجبارية بكلمات قالت فيها: “الحروب جميعها هي حروب بين لصوص جبناء جدًا لا يصلحون للقتال؛ فيرسلون آخرين ليموتوا بدلًا منهم“، وبرغم كل هذه السنوات لا زالت إيما جولدمان وكلماتها حاضرة في وجدان أجيال من الأمريكيين الرافضين للحروب التي تشنها حكوماتهم في مناطق متفرقة من العالم، ولا زالت إيما قادرة على أن تكون ملهمة لأعمال فنية وأدبية عديدة، من أشهرها مسرحية (إيما) التي كتبها المؤرخ الأمريكي الشهير هوارد زن، وترجمت إلى العربية قبل سنوات.

في جواتيمالا، كسرت الحكومة عام 2004 ولأول مرة قانون إفلات السلطة من العقاب، حين اعترفت رسميًا بأن الباحثة ميرنا ماك قد اغتيلت بأمر من رئاسة البلاد؛ لأنها توغلت في الأدغال لعمل بحث مع السكان الأصليين الناجين من المجازر العسكرية، ليصدر أمر بقتلها طعنًا بالسكاكين. وبعدها بسنوات في 2011، لم تفلح القوانين المصممة بعناية، في مساعدة قادة الخمير الحمر على الإفلات من المحاكمة بسبب ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، سقط بسببها آلاف القتلى، خلال الأعوام من 1975 إلى 1979، كان أكبر القادة الذين تعرضوا للمحاكمة سنًا وهو وزير خارجية النظام، قد بلغ من العمر وقت بدء المحاكمة 85 عامًا، ومع أنه لم يقتل بيديه، لكن المحكمة المدعومة من الأمم المتحدة، اعتبرته متورطًا سياسيًا في كل ما جرى؛ بل وحاكمت معه زوجته البالغة من العمر 79 عامًا والتي كانت تشغل منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية، كما حوكم أيضًا منظر التنظيم ونائب زعيمه السفاح بول بوت وكان عمره 84 عامًا، وكذلك وزير الداخلية السابق البالغ من العمر 79 عامًا، وقد حوكم جميعهم مع أنهم لم يقتلوا بأيديهم مباشرة، لكن مجرد وقوع تلك الجرائم تحت مسؤوليتهم السياسية جعلهم خاضعين للمحاكمة الجنائية.

في كولومبيا وخلال محاكمات قامت بفتح ملفات الحكم العسكري، اعترف ضابط برتبة كولونيل أن وحدته قتلت خلال سنوات الحرب التي شهدتها البلاد 57 مدنيًا ثم ألبست جثثهم أزياء عسكرية للادعاء أنهم متمردون قتلوا في مواجهات عسكرية من أجل الحصول على مكافآت مالية أعلن عنها الجيش لمن يقتل أكبر عدد من المتمردين، الكولونيل لويس بورجا يقضي عقوبة السجن لمدة 21 سنة وقد سبقه إلى السجن ثمانية جنود يقضون الآن عقوبة بالسجن ستين عامًا، لقتلهم أربعة مزارعين ثم إلباسهم ثيابًا عسكرية، بينما يواصل المدعي العام الكولومبي وعلى مدى سنوات التحقيق في ألف وأربعمئة حالة مماثلة حصلت في الفترة من 2002 إلى 2010.

أما في هولندا، فقد صدر في عام 2011 حكم قضائي بات اعتبر أن الدولة الهولندية مسؤولة عن قتل ثلاثة مسلمين هربوا مع المئات من مذابح سيربيرنتسيا التي كانت تقوم بها قوات الصربي راتكو مالديتش في 11 يوليو 1995، ولجؤوا إلى معسكر قوات حفظ السلام الهولندية التي أجبرتهم على الخروج من المعسكر ليتم قتلهم هم و8 آلاف شخص في أسوأ مذبحة شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ليلجأ بعض ذويهم إلى القضاء الهولندي الذي أثبت بعد تحقيقات طويلة أن القوات الهولندية كانت مخطئة بعدم حمايتها للمدنيين مما يلزم الدولة الهولندية بدفع تعويضات لذويهم، وهو ما يفتح الباب لسلسلة قضايا تشمل كل المتضررين مما جرى يومها.

في المجر، تمت قبل سنوات إحالة رجل عمره 97 سنة إلى محكمة خاصة ببودابست؛ لاتهامه بارتكاب جرائم حرب تسببت في مقتل 36 يهوديًا وصربيًا عام 1942 أثناء الحكم النازي لمدينة نوفوساد الصربية، والمدعون عليه طالبوا بمعاقبته بالسجن، والمتهم أصر أنه لا يعرف شيئًا عن تلك الاتهامات، ولم يتم الدفع بكبر سنه ولا بتدهور صحته، بل خضع لمحاكمة عادلة برأته المحكمة على إثرها.

أما في كينيا، فقد حصل 4 عواجيز كينيين في عام 2011 على موافقة من المحكمة العليا برفع دعاوى قضائية على الحكومة البريطانية التي يتهمون ضباطًا منها بتعذيبهم أثناء تمرد الماو ماو الذي وقع في الخمسينيات من القرن الماضي، وهو ما يفتح الباب لسيل من الدعاوى التي سيرفعها كينيون تعرضوا للتعذيب بل وللاعتداءات الجنسية والإخصاء، أعجبني تعليق على هذا الحكم قاله الأسقف الجنوب إفريقي ديزموند توتو الذي اعتبر أن إنصاف هؤلاء الضحايا ليس انتصارًا قانونيًا بقدر ماهو انتصار أخلاقي وسياسي تحتاجه إفريقيا وكل شعوب العالم الثالث.

في المكسيك، كانت السنين كفيلة بتبديل الطريقة التي يتذكر بها الناس راهبًا وجنرالًا، الراهب هو سيرفاندو تيريسا دي ميير الذي صدر عليه حكم بالإدانة الأبدية في عام 1794 أصدره مطران المكسيك ألونسو نونيث؛ لأنه ألقى موعظة نارية رفض فيها اضطهاد اليهود في محاكم التفتيش ودافع عن الاستقلال المكسيكي، فدفع الثمن تجريده من لقبه ومنعه بصورة أبدية من التدريس وتلقي الاعترافات وإلقاء المواعظ، وحكم عليه بالنفي إلى إسبانيا، وتم سجنه سبع مرات، ليهرب من السجن سبع مرات، ولتعيش حتى الآن سيرته كمناضل حارب من أجل استقلال بلاده وكتب أبحاثًا جادة حول مشروع جمهورية حرة من القيود الاستعمارية والعسكرية الإسبانية، لتستفيد منها أمته المكسيكية حين تصبح سيدة نفسها.

أما الجنرال، فهو أرتورو دوراثو الذي كان يقود الشرطة المكسيكية، وكان يقبض في نهاية كل شهر رواتب ألفي شرطي ممن ماتوا أو لم يولدوا من أصله، وكان يتقاضى عمولة عن كل جرام كوكايين أو هيرويين يمر عبر البلاد، وكان يبيع رتب الضباط بمليون ونصف مليون بيزو مكسيكي لرتبة الكولونيل، وكان يهدي رتبة كابتن لمطربيه المفضلين، ويمتلك عددًا من البيوت في مكسيكو والعالم يمتلك كل منها أسلوبًا مختلفًا في الأثاث، وفي عام 1982 حصل على دكتوراه فخرية، لتنشر كل الصحف صورته وهو يرتدي الرداء الجامعي، لكن المطاف لم ينته به في بيوته العديدة، بل في السجن، مجللًا بالعار والخزي، ومع أن المكسيك لا تزال حتى الآن تحارب من أجل تطهير شرطتها من الفساد، ومن أجل أن تعيش في جمهورية حرة من القيود التي أصبحت تفرضها طبقة أصحاب المصالح؛ إلا أن سيرة الراهب سيرفاندو والجنرال أرتورو لم تعد تُقرأ بنفس الطريقة التي كانت مفروضة على الكل بالحديد والنار.

تتعدد الوقائع بحيث يضيق عن حصرها المجال، لكن يبقى الاختيار في نهاية المطاف، أخلاقيًا وشخصيًا يخصك أنت وحدك: هل تختار رفض مساندة الظلم حتى ولو لم تشهد نهايته؟، أم تشارك في نصرة الظلم، ولو بالتبرير يأسًا من أنك لم تشهد نهايته؟، سيكون عليك أنت وحدك أن تختار؛ لأنك وحدك الذي ستدفع ثمن اختيارك، حين يكون ذلك الاختيار مدعاة للفخر أو للعار، في حياتك، أو حين تنتهي حياتك، بعد عمر طويل.
*المصدر «التقرير»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.