في فترة الستينات على الساحة الإسلامية عموما ظهر مجموعة من المفكرين الكبار ولكن للأسف لم يسعفهم الحظ ليرتقوا بمصر إلى سدة المجد فانتقلوا بين عشية وضحاها إلى السجون والمعتقلات .. بما صرح به احد الإسلاميين أن انتقلت مصر برمتها إلى السجون والمعتقلات عشية حادث المنشية .. على الواقع العام في الشارع المصري إسلاميا كان هناك فصيل جديد غير أولئك العظماء الذين اكتووا بنار المحنة والابتلاء ... على ساحة قريتنا مع الاحتفاظ بالأسماء ..كان هناك نوعية لا يمكن أن نسحب عليها لفظ مشائخ لأنه ظلم للمشايخ وظلم لهم ..ممن يركضون خلف الولائم والجنائز .. بما يعني تصحير الساحة الإسلامية إلا هؤلاء ليسدوا الثغرة ولكن أنى لهم من فرضيات الغايات والرؤى والتوجهات ولكن بجهد المقل العاجز .. الشيخ إبراهيم المنزلاوي كان احدهم و لو تفرستم في سجلات الذاكرة كل في قريته سيجد نمطية الصورة المكررة وسيجد تكرار الأحداث كما يقول الفرنجة deja vu ربما هذا النمط كان المرغوب سياسيا ليتسيد على الساحة في ظل غياب الصقور .. أو البلابل.. في وقت كان حرام على بلابله الدوح .. والشيخ إبراهيم المنزلاوي كان له معالجته الخاصة في رمضان .. إذ قسم منازل القرية على ثلاثين يوما .. وكان على كل بيت من بيوت القرية أن يعد له وليمة بإمكانيات أهل القرية المتواضعة ولكن لابد إن يتربع على المائدة ذكر البط المحمر .. كان ثمة كوم من السباخ أمام كل بيت .. وما أن تغيب الشمس وما إن يقول الشيخ محمد رفعت في ميكرفون المسجد (صدق الله العظيم) إلا ويصعد أخونا على كوم السباخ ويؤذن آذانا سريعا .. ثم ما يلبث أن يدخل البيت الذي عليه الدور في تعداد القرية .. في وقت كانت أعدت له المائدة سلفا .. فيلتهم الأكل التهاما وينتزع دكر البط المحمر انتزاعا .. وبعد أن ينتهي لم تكن قد دخلت القرية مياه البلدية بعد .. فكان علي أن أصب عليه الماء في الحوض النحاسي وأحمل الفوطة لينشف يديه ووجهه .. كنت أرقب وجهه واقرأ قسمات وجهه عن كثب الذي يتسم بالحمرة كناية عن تراكم البط المحمر على مر العصور الرمضانية .. وبعد أن يغسل يديه يتوضأ ومن ثم يدخل غرفة الجلوس ويضع كفيه على أذنيه ويرتل بعض الآيات ومن ثم يذهب إلى المسجد وينقر الصلاة في ركيعات سريعة يخرج من المسجد يمر على بائع المرطبات الرمضانية من عرقسوس وتمر هندي ليقذف في معدته المكتنزة بما لذ وطاب ما يرطب به الأجواء على البط المحمر ومن ثم يمر على بائع الفاكهة ليشتر كيلو من كل نوع .. وتمر السنة سريعا ويأتي الحصاد أي حصاد الأرز يمر هو وزوجته المسكينة ليأخذ الأجرة على ما أدى من فرضيات العناية بالشأن الديني للقرية على طريقته الخاصة ناهيك عن إجراء دور المسحراتي في رمضان أو ما ذكرناه أعلاه .. وحينما يكون المكيال أو صواع المنزلاوي غير طافح تقول زوجته لقد انكسر ظهر زوجي ركوعا طول العام وانتم تبخلون ... خلاصة القول :في النهاية لقد وقع اجر المنزلاوي على من اكتال له في نهاية العام ... وهكذا وقع اجر مبارك على إسرائيل في نهاية المطاف .. أحيانا لا تخلو حياة النبلاء والشرفاء من المنغصات.. ولكن يكفيهم أنه قد وقع أجرهم على الله.. في فلسفة ذكرها الكواكبي : ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين .. فلقد سألوا أحد النبلاء لماذا لا تبني لك بيتا ؟ فقال ماذا أفعل وأنا على صهوة جواد أو في القبر أو في السجن.. كثير من الشرفاء قضوا حياتهم بلا طائل من معيارية موازين البشر ولكن أعتقد أنهم في معيارية السماء لهم ميزان آخر ..- رأينا من فضوا حياتهم بلا وضع لقيمة الدنيا بأسرها كمن خرج بجواده في سبيل الله ولم يرجع بشيء .. تلك النقطة ألمح بها المصطفى الكريم إلى الأنصار.. بأن يعود الناس بالشاء والدرهم إلى رحالهم ويعودوا هم فقط بالله ورسوله إلى رحالهم .. المصطفى الكريم ركل أمجاد الأرض .. وبالرغم من مجد النبوة والاصطفاء .. يقول للأعرابي .. هون عليك فأمي كانت تأكل القديد بمكة .. يزوره عمر رضي الله عنه فيجد اثر الحصير على جنبه .. وهذا عمر بن الخطاب الذي ذهب ليزور أبي عبيدة حينما فتح بيت المقدس .. فلم يجد في بيته إلا آنية للوضوء وسجاد للنوم والصلاة.. فيقول له : ألا تتخذ متاعا .. فأجاب ذلك يبلغنا .. اى يبلغه إلى الآخرة .. فيقول بن الخطاب كلنا غلبته الدنيا إلا أنت يا أبا عبيدة .. يقول ذلك وفي ثوبه أي عمر أربع رقع .. وبهذا الحس ملكوا الدنيا .. وسادوا الأرض ولم تغيرهم الدنيا في شيء .. رأينا في القران الكريم مصطلح الأنبياء فيما يختص بقولهم (وما أسالكم عليه من اجر إن اجري إلا على الله )..قال تعالى (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص : 86 ) وجاء في القران على لسان نوح (فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس : 72 ) وفي سورة الشعراء على لسان نوح (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء : 109 ) وعلى لسان هود (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء : 127 ) وهنا توجيه للمصطفى الكريم (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (سبأ : 47 ) ما أروع أن تكون الدعوة إلى الله مستقلة عن عطاء العباد فيكون الداعي إلى الله أشم الأنف ذو كبرياء لا يتضعضع تحت ضغط الحاجة والعوز .. لذلك بايع المصطفى أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئا وهذه البيعة عظيمة ورائعة لاستقلالية الدعوة وألا يحط خصوم الدعوة من قدرها جراء المسألة .. لقد كان الوقف الإسلامي مهما في استقلالية الدعوة إلى الله وحفظ ماء وجه الدعاة .. إلا أن في القضية في السبعينات من القرن الماضي كان هناك فصيل آخر ... لم ينظروا قط إلى عطاء العباد أو الركض وراء الولائم والجنائز.. أو حتى المناصب لقد كان الشيخ عبد الله عزام دكتور جامعي ترك المدرجات وحمل البندقية وذهب إلى الثغور .. شيخ يحمل بندقية في مواجهة الغزاة كانت هزة عنيفة على جهاز الامة العصبي ... أعاد أذهان الأمة إلى القسام و البنا وعمر المختار .. وكان هناك حفنة من المجاهدين .. على أي حال كانت النهايات مأساوية سواء اعتقالا في غوانتنامو أو سجون الدول العربية التي قطعت ميثاقا فيما بينها على ذبح كل من ارتوى من نهر القتال في سبيل الله .. حتى من اغترف عرفة بيده .. طبعا إرضاء لبني صهيون .. كما قال الشاعر: وكم من دم أعيا الكماه مرامه يوم الوغى أراقه الحجام مؤلم ما فعله الحجامين من الحكام العرب .. على أيا كانت الفرضيات والنهايات المأساوية فقد وقع أجرهم على الله يقول خبّاب بن الأرت:هاجرنا مع الرسول في سبيل الله, نبتغي وجه الله، طلباً للأجر من الله. فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد. فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة. فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله : اجعلوها مما يلي رأسه, واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر. وقف الرسول عند مصعب بن عمير وقال: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن بها وقال لقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة ولا أحسن لمّة منك. ثم ها أنتذا شعث الرأس في بردة.