لا أستطيع أن أستوعب ما قاله البابا شنودة أمس من أن ما حدث من هجوم مسلح من مظاهرة الأقباط المتجهين إلى مبنى التليفزيون على جنود القوات المسلحة كان من فعل مجموعة مندسة ، وأن المظاهرة كانت سلمية ولم يحمل المشاركون فيها سوى الصلبان الخشبية ، لأنه من الصعب أن يكون البابا لم ير الأشرطة المصورة التي تكشف عنفا وعصبية وتدميرا في كل شيء وإشعال الحرائق وسحل الجنود الذين وقعوا في أيديهم والمسجلة إصاباتهم المروعة في المستشفيات المختلفة ، فضلا عن مقتل عدد من الجنود ، ولا أعرف لماذا لم تفلح هذه الفئة المندسة إلا في هذه المظاهرة تحديدا ، إننا على مدار عدة أشهر ومصر تشهد مظاهرات صاخبة ، ضخمة أومحدودة ، في ميدان التحرير والاسكندرية والمدن الأخرى ، وكذلك مظاهرات قبطية طائفية ، لم يحدث أبدا أن "الفئة المندسة" في جميع هذه المظاهرات أطلقت النار على قوات الجيش وأحدثت هذه المذبحة ، هذا عبث بالعقول لا يليق . والشيء الوحيد الذي يحمد للناشط القبطي عماد جاد ، الباحث بمركز الأهرام ، أن استسخف هذا الكلام على الهواء مباشرة في قناة العربية ، واستغرب صدوره من البابا مؤكدا أن البابا شبه غائب عن الوعي وأنه أتى إلى الكاتدرائية متسندا لا يكاد يقف على قدميه وأوحي عماد أن البابا شبه مغيب ولا يدري بما يحدث في مصر الآن ، والحقيقة أن عماد جاد دار على جميع القنوات الفضائية أول أمس من البي بي سي إلى العربية إلى الجزيرة إلى التحرير إلى السي بي سي إلى غيرها ، في الاستديوهات وعبر الهاتف يخرج من هذه ليدخل تلك ، ولا يفصل بين مشاركاته سوى دقائق معدودة ، كمنصة إذاعية متنقلة لكي يقول عبارة واحدة فقط في جميع هذه القنوات ويكررها على الدوام : أنا كنت شاهد ومشارك هناك وشاهدت عربات الجيش تدهس المتظاهرين ، ولم ير أي شيء هناك غير ذلك ، وفي اليوم التالي تذكرت القنوات الفضائية أن هناك باحثين أقباط في مصر غير عماد جاد الذي بدا شديد التطرف والعصبية رغم حرصه السابق على عدم إظهار هويته الدينية . سيكون من الخطورة بمكان ترك المحرضين على هذه الجريمة يفلتون من العقاب ، لأن من قتل هؤلاء المواطنين الأبرياء ، من الجيش أو الأقباط ، هم هؤلاء المحرضون ، هم القتلة ، وبعضهم مسجل تحريضه على القتل والعنف بالصوت والصورة ، والخطوة الجوهرية لقطع دابر الفتنة هو توقيفهم أيا كانت صفتهم ، لأن تركهم فيه إغراء لهم بالعودة إلى هذا التحريض والعنف ، كما هو إغراء للآخرين ، إضافة إلى أنه يرسل رسالة غير صحية للطرف الآخر فيها تحريض على إهدار القانون . التعليقات التي صدرت حول أحداث أول أمس كان فيها تهويل مبالغ فيه جدا ، ومقصود بطبيعة الحال ، وأسفت أن ينجر إليه كثير من "الطيبين" ، ويقيني أنه رغم خطورته هو مخطط "صغير" لإثارة فوضى تربك برنامج نقل السلطة ، ومصر أثبتت دائما أنها أكبر من هذه المخططات الشيطانية ، ولا يمكن اتهام التيار العام في الأقباط بأنهم يتعاطفون مع هذا العنف وذلك التحريض ، رغم تعاطفهم الأكيد وألمهم المبرر للضحايا من القتلى والمصابين ، فكلنا تألمنا لهؤلاء الأبرياء وتألمنا أكثر للأمهات اللاتي فجعن بجثث أبنائهن وسيظل عذاب المشهد يؤلمهم لزمن طويل ، وإنما هذه الجريمة هي فعل مجموعة صغيرة من رجال الدين الشبان المتطرفين يبسطون سيطرتهم على قطاع من الشباب والأسر في المناطق الشعبية الفقيرة والمهمشة ، ومسيرة الفتنة أول أمس أتت من خط واحد واضح ، ومن حي بعينه ، والشوارع القادمة منه لوسط المدينة ، وعندما استمعت إلى عديد من رجال الدين الأقباط أمس في قنوات فضائية يتكلمون بنقد عاقل وموضوعي ويعرضون مطالبهم ورؤاهم باعتدال ولغة راقية وحرص على الوطن ، أيقنت أن "المتطرفين" قلة داخل الصف القبطي ، ولكنهم خطرون بصخبهم وتهييجهم وقدرتهم على بث الشائعات وإيغار صدور الشباب الصغير . يخطئ من يتصور أن التطرف يكون علاجه بتطرف مقابل ، فأنت بذلك تعطي المتطرفين شهادة نجاح ، وإنما العلاج يكون باحتواء المؤامرة واستيعابها، وتجاوزها ، ليشعر المتطرف بهامشيته ، وضعف حجمه ، ولأن بلادنا تنتظر تحديات أهم بكثير من هذه المؤامرات الصغيرة ، أولويات الوطن الآن أن ينجز الانتقال السلمي والآمن للحكم إلى سلطة مدنية منتخبة ، وإستكمال مؤسسات الدولة الديمقراطية ، من برلمان ودستور ورئيس للجمهورية ، وإصلاح عاجل للقضاء والمؤسسة الأمنية ، وعودة الجيش لثكناته ، وعندما تنجز هذه الحزمة من التحولات المصيرية ، ستختفي تدريجيا وإلى الأبد كل مظاهر الفتنة الطائفية والتحرشات ، وسينزوي المتطرفون إلى جحورهم ، وسينفتح المجتمع من جديد على كل أطيافه ، ويتداخل نسيجه من جديد ، ويندمج الجميع في مشروع طموح للإصلاح السياسي والتنموي والعلمي والثقافي ، ويبدأ أبناء الوطن جميعا يتلمسون نتائج هذا الإصلاح في حياتهم المباشرة ، في الصحة والتعليم والبيئة والطرق والمواصلات والحاجات الأساسية والخدمات العامة والعمل والدخل الآدمي للأسر والإحساس بالكرامة والآدمية في التعامل مع جميع مؤسسات الدولة ، البركة الراكدة هي التي تنمو فيه هذه الطفيليات والديدان ، ونهر الحياة الجاري والمتجدد هو الذي يحيي المجتمعات ويمنحها الحيوية ويطهرها من هذه "الديدان" والطفيليات . [email protected]