لا شك أن نجاح الثورة الليبية في تحقيق أهدافها وأهمها إزاحة نظام العقيد المجرم، يعد من الأحلام التي ظن الكثيرون أنها لن تتحقق، لأن ثوار ليبيا واجهوا نظامًا غير مسبوق في جنونه وجنوحه إلى الدموية والكذب. وهكذا فإن ما تحقق حتى الآن في ليبيا هو إنجاز تاريخي، ولأنه تاريخي فإنه يواجه اليوم تحديات كبيرة تهدد وصوله إلى غايته الكبرى. أول تحد يواجه اكتمال نجاح الثورة الليبية هو أن العقيد المدحور وبعض أبنائه ومساعديه، مازالوا موجودين في الساحة الليبية ومن الحين للآخر يوجه المدحور رسائل صوتية عبر بعض القنوات الفضائية والإذاعات والمواقع التابعة له، يقول فيها أنه لا يزال موجودًا في ليبيا وينتظر "الشهادة" فيها خلال تصديه للغرب وعملائه. ومن الأهمية بمكان إكمال مهمة التحرير في "سرت" و"بني وليد"، وهي أكثر المواقع تحصينًا. وإذا كانت معركة "سرت" قد أوشكت على النهاية لصالح الثوار، بعد أن سيطروا على مطار سرت الاستراتيجي بعد معارك عنيفة، وبعد وصول تعزيزات عسكرية كبيرة لتعزيز موقف الثوار، من مدرعات ومدافع ودبابات وقاذفات الصواريخ، وذخيرة من مختلف الأعيرة .. ومع السيطرة على "سبها" و"الجفرة" .. فإنه يبدو أن "بني وليد" هي المعقل الأخير الذي سيتجمع فيه أنصار العقيد المدحور لخوض معركتهم الأخيرة، ويبدو أنهم خططوا لذلك في الماضي. فالطبيعة الجغرافية القاسية للمنطقة تعرض أي مهاجم لإطلاق نار مكثف، وقد كانت هذه البلدة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من طرابلس واحدة من آخر الأماكن التي سقطت في أيدي القوات الإيطالية المستعمرة في القرن الماضي، وتعرف منذ فترة طويلة بأنها حصن دفاعي. ويبدو أن "بني وليد" بُنيت من أجل المواجهات الأخيرة. فهي تمتد بمحاذاة سلسلة من التلال، وهو طابع جغرافي يجبر المهاجمين القادمين من الشمال على عبور أخاديد، مما يعرضهم لنيران خطيرة. وتضم المدينة قبيلة "ورفلة" أكبر القبائل الليبية، وأي هجوم يسبب خسائر كبيرة في الأرواح ربما يثير غضبها ضد المجلس الوطني الانتقالي، كما أن السكان الذين فروا أو انضموا إلى جانب الثورة يرغبون في ضمان عدم المساس بمنازل أقاربهم. حرب استنزاف الخطورة تكمن فيما تتناقله التقارير الغربية من أن أنصار العقيد المدحور بدءوا في حشد نحو عشرة آلاف من المقاتلين الموالين له في الصحراء الجنوبية المطلة على كل من النيجر وتشاد، وأن قيادات من قبيلة الطوارق التي لها امتداد داخل الدول المطلة على الحدود الليبية من الجنوب والغرب أنذرت حكومات الدول التي لجأت إلى أراضيها قيادات عسكرية وأمنية تابعة للنظام البائد من اعتقال أي منهم أو المساس بهم، أو تقييد حركاتهم، وأن هناك معلومات عن محاولات لشن هجمات أو أعمال قطع طرق أو غيرها من الأعمال التي سوف تعمل على زعزعة الاستقرار في البلاد. مصادر الثوار أنفسهم تتحدث عن أن قيادات موالية للعقيد المدحور تتنقل بحرية بين حدود ليبيا والنيجر ودول أخرى، ويخططون لحرب استنزاف بمساعدة قبائل الطوارق وقبائل وجنسيات أفريقية أخرى. وقوات النظام البائد، من ناحيتها، تعمل على جبهتين، في الشمال أي في "سرت" و"بني وليد"، وفي الجنوب الذي يصفونه ب"الرخو"، لضعف قوة "الناتو" والمجلس الوطني الانتقالي هناك وعدم إمكانية السيطرة على هذه المناطق الشاسعة. ولعل الهجوم الذي تعرضت له مدينتا "غدامس" و"غات"، يؤكد هذه الخطة. وهنا تتأكد مناشدة المجلس الوطني الانتقالي للمجتمع الدولي أن يضغط على الدول الإفريقية التي لا تزال تدعم العقيد المدحور لضمان ألا يفسد هو وأسرته معركة البلاد من أجل الحرية، فليبيا ما زالت تحتاج مساعدة من المجتمع الدولي لممارسة ضغوط على تلك الدول الإفريقية التي مازالت تؤيد العقيد المدحور وتستفيد من أمواله. أما التحدي الآخر والكبير الذي يواجه الثورة الليبية من أجل إكمال نجاحها، فهو تشكيل الحكومة الجديدة بروح من التوافق والتعاون، والتغلب على أية خلافات تظهر بين مناطق الثورة وأجنحتها المختلفة. وعدم قدرة المجلس الانتقالي على تشكيل الحكومة حتى الآن يجعل هناك تحديًا بضرورة وأد أية خلافات في مهدها. كما أن التحدي الخاص بتوحيد البلاد، وبسط سلطة الحكومة الجديدة على الميليشيات المدنية، ووضع حد للأسلحة المنتشرة في الشوارع، هو تحد كبير يحدد مدى اكتمال نجاح الثورة من عدمه. وإذا كانت المعلومات المتاحة تؤشر على أن أسباب تعثر مفاوضات تشكيل الحكومة، هو الخلافات بين المجموعات من مختلف المناطق، حيث يجادل كل من القادة في بنغازي، ومصراتة، والزنتان وغيرها من المدن بأن المعاناة التي كابدوها ومساهماتهم خلال الثورة تؤهلهم للحصول على المراكز الأعلى في الحكومة المزمع تشكيلها، فإننا نرجو أن تكون هذه المعلومات والتقارير مبالغًا فيها أو غير صحيحة، فالحرص يجب أن يكون على نجاح الثورة وتأسيس نظام سياسي ديمقراطي وعادل يعطي الليبيين حقوقهم على قدم المساواة. مصراتة والمعارضة الصحافة الغربية تتحدث الآن عن أن عضو المجلس الوطني الانتقالي ومسئول المكتب التنفيذي ومسئول العلاقات الخارجية، محمود جبريل، وهو أستاذ سابق في جامعة بيتسبرغ الأمريكية في العلوم السياسية، يواجه معارضة قوية، وخاصة من مصراتة، مركز الصناعة والتجارة في ليبيا، التي يقول الثوار فيها إنها هي التي لعبت دورًا كبيرًا في نجاح الثورة، لن تقبل أبدًا بمحمود جبريل، فهو لم يكن في ليبيا في العهد البائد، وبالكاد كان موجودًا خلال الثورة. ويساند الكثيرون في مصراتة عبد الرحمن السويحلي، وهو مهندس من عائلة بارزة، لمنصب رئيس الوزراء، بدلاً من محمود جبريل. وهذه خلافات يجب أن تختفي، فمحمود جبريل خبير كبير مشهود له بالكفاءة والوطنية، وقد لعب دورًا حاسمًا في الثورة عن طريق تأمين الدعم الدولي، فلولا الغارات الجوية لحلف شمال الأطلسي، لما انتصرت الثورة. فكل ليبي وطني شريف أدى ما عليه، سواء كان موجودًا في ليبيا أو خارجها، ويجب ألا تحرم ليبيا من كفاءات أبنائها، ويجب أن تختفي هذه التقسيمات، فهذا السلوك هو بداية الانقسام والتشرذم والفشل، ونحن نرجو أن نبتعد عن مقدمات الفشل ونسلك كل السبل التي تؤدي إلى الوحدة والتكاتف. وإذا كان ثوار مدينة "الزنتان" و"جبل نفوسة"، يرون أنهم عانوا هم أيضًا وتحملوا في الثورة أكثر من غيرهم، وأنهم مكافأة لذلك يريدون دورًا أكبر في الحكومة القادمة، فإن عليهم أيضًا أن يكونوا كالأنصار الذين التفتوا إلى نصرة الإسلام وعزته ولم يلتفتوا إلى الغنائم، رغم أنهم كانوا يرونها توزع أمامهم ولا يأخذون منها، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يؤلف بها قلوب البعض، بينما يكل الأنصار إلى إيمان صادق لا يتزعزع. وبالمثل، فإنه ليس من حق أهل مدينة "بنغازي"، وهي أكبر مدينة في شرق البلاد، القول بأن الثوار في المدينة هم من بدءوا بالثورة، وعملوا لمدة شهور على إمداد الثوار في جميع أنحاء ليبيا بالأسلحة والمال. فإذا فتحنا هذا الباب فسوف يفتح باب الخلافات التي لن تنتهي. ولذلك فقد أحسن السيد مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي، الذي قال: إن العطاء في الثورة ليس معيارًا للانضمام إلى الحكومة، وإنما المعيار هو الكفاءة والمهنية والخبرة. ومن التحديات التي تواجه المجلس الوطني الانتقالي أيضًا، المصالحة الوطنية والوحدة وضمان ضم جميع الفصائل العسكرية تحت لواء واحد وقيادة موحدة وتنفيذ سلطة المجلس الوطني السياسية على جميع أنحاء البلاد. كما أنه من الضروري بسط سلطة المجلس على الكم الهائل من الأسلحة التي تم جمعها وغنيمتها والسيطرة عليها من النظام البائد، فانتشار هذه الأسلحة يمثل خطرًا شديدًا على استقرار ليبيا واكتمال نجاح ثورتها. وهناك تحد آخر وهو ملف النازحين الليبيين نتيجة الحرب، فقد تم تسجيل أكثر من ستين ألف نازح ليبي، ومن الضروري العناية بهم إنسانيًا وإعادتهم إلى قراهم ومدنهم ومنازلهم. وهناك ضرورة ملحة أيضًا لحماية المهاجرين الأفارقة ورعايا الدول الأخرى وضمان أمنهم ومراجعة إجراءات الأشخاص المعتقلين. وعلى النظام السياسي الجديد في ليبيا أن يكون لديه تصور سياسي لإدارة ملف الأمازيغ الليبيين، الذين دخلوا مرحلة جديدة من تفاعلهم مع المجتمع والدولة عنوانها الشراكة الثقافية والسياسية، بعد عقود من التهميش الذي تعرضوا له في عهد العقيد المدحور، وللمرة الأولى منذ أكثر من أربعة عقود، ينظمون مؤتمرًا كبيرًا خاصًا بهم في طرابلس تحت شعار "ترسيم اللغة الأمازيغية ودعم الوحدة الوطنية".. ورفع الأمازيغ علمهم الأزرق والأخضر والأصفر، فيما تولت حماية الموقع قوات أمازيغية شاركت في الثورة. فهذا ملف جديد تم فتحه، ونحن ننتظر أن يتم التعامل معه على أسس وطنية وعقلانية. وهناك تحد آخر في المقاومة الوطنية واستقلال القرار السياسي؛ فقد طالب الادعاء العام في اسكتلندا من النظام الجديد تقديم المساعدة في التحقيق في قضية لوكربي، بأمل الحصول على قدر أكبر من التعاون في الكشف عن أدلة جديدة لإدانة الأشخاص الذين كانوا ضالعين في التفجير مع عبد الباسط المقرحي المدان في القضية عام 1988م. وإلى الآن فإن الرد كان جيدًا من محمد العاجي وزير العدل في المجلس الانتقالي، الذي قال: إن ملف قضية المقرحي قد أغلق، معتبرًا هذه القضية منتهية لعدم إمكانية محاكمة شخص بنفس التهمة مرتين. ونحن نريد أن نرى مواقف صلبة في القضايا الوطنية وقضايا استقلال القرار السياسي المماثلة. المصدر: الإسلام اليوم