حين يكون الحب عميقا يكون الألم عميقا والجرح دائم ومتجدد يعجز المرء حتى أن يتكلم لأن الكلمات تكون باهتة أمام الدماء الزاكية والحديث يكون سخيفا بل سخيف جدا أمام مجازر وحشية فرب صمت أبلغ من كلام لكن لا بد من الكلام لعل كلمة طيبة تؤتي أكلها يوما بإذن ربها كنا على صغر سننا وعلى مدى سنوات طويلة نلتف حول برنامج الشيخ على الطنطاوي يوم الجمعة أو في أيام رمضان عند الإفطار لا نمل منه أبدا وكان يتحفنا بآرائه وقصصه الجاذبة كنا نحزن إذ يدركه الوقت ونتمنى لو أتاحوا له وقتا إضافيا كان الشيخ سوريا ولكن لم نفهم في ذلك الوقت لم ترك بلاد الشام إلى أرض الحجاز لكننا كنا نفاجأ أحيانا ليست بالقليلة بانتحابه وبكائه وشجنه كلما تذكر ابنته أو ذكر اي شيء له علاقة بابنته كنا صغارا على السياسة لكننا لم نكن صغارا لكي يترسخ في أذهاننا السؤال ماذا حدث لابنته؟ وعندما بحثنا وجدنا التالي (في 11 جمادى الأولى 1401 ه الموافق يوم الخميس يوافق 17/3/1981م استشهدت الدكتورة بنان علي طنطاوي ابنة الشيخ علي طنطاوي وزوجة الأستاذ عصام العطار –المراقب العام الأسبق للإخوان المسلمين بسوريا- في مدينة آخن بألمانيا على يدي رجال نظام الرئيس حافظ الأسد. لكننا لم نتوقف نحن أيضا عن البكاء والألم ونحن نقرأ كيف قتلوها وكيف كانت معاناتها (يستعيد الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) ذكرى مقتل أبنته في مذكراته فيقول: إن كل أب يحب أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي... ما صدّقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحيانا فأظن إن رن جرس الهاتف، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها، تكلمني مستعجلة، ترصّف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائما كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل .... هذا .......يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة (الألمانيّة) بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها كأن فيها بقية من أعراق أجدادها. ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما ويواصل الشيخ وصف الجريمة فيقول: ثمّ داس القاتل بقدميه النجستنين عليها ليتوثّق من موتها كما أوصاه من بعث به لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته، ابنتي بنان رحمها الله, و هذه أول مرة اذكر فيها اسمها,اذكره و الدّمع يملأ عيني,و الخفقان بعصف بقلبي, اذكره أول مرة بلساني و ما غاب عن ذهني لحظة و لا صورتها عن جناني. أفتنكرون عليّ أن أجد في كل مأتم مأتمها و في كل خبر وفاة وفاتها؟ هذه بعض من كلماتها لزوجها : "لا تفكر فيَّ وفي أولادك وأهلك، ولكن فكر كما عودتنا دائماً بإخوانك ودعوتك وواجبك". وحينما ضُيِّق عليه الخناق وأُجبر على فراق الأهل والديار والزوجة والأولاد، واصلت الزوجة مواقفها العظيمة وراسلته تحثه على الثبات وعدم الخضوع: "نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله حيثما كنت وعلى أي حال كنت، والله معك (يا عصام) وما يكتبه الله لنا هو الخير". وحينما أصيب زوجها بالشلل في بروكسل كتبت تواسيه: "لا تحزن يا عصام.. إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا.. وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا.. تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك وإن اضطررنا الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام". كان الشيخ وابنته وشائجنا الأول لمحبة بلاد الشام وكره خراب الأسد كم يا شيخنا حببت الأيمان في قلوب مستمعيك كم أثرت عاطفتنا لمحبة الدين وكنت الأديب الفقيه والفقيه الأديب رحمك الله فما أظنك كنت تتحمل ان ترى ما نراه الآن فما بالنا لا نحرك اليوم ساكنا إن أجيالا بأكملها قتلت ، بلدات بأكملها يتامى هل نعلم ما حدث في حماة من قبل ام لا أي ضمير إنساني يتحمل ما يحدث في بلاد الشام هل نحن بشر ونعيش في عالم البشر ام في غابة يحكمها ملك الغابة