فجأة تجد نفسك في موقف المتهم، وتبدأ في البحث عن دفاعاتك في التهم الموجهة إليك وما أخطرها من اتهامات!! أنت مشغول بإرضاء الانفصاليين المتمردين في النوبة! للأسف أنت تساند المشروع الغربي بدون أن تدري، كما فعلها قبلك بعض المتشدقين بالحرية في السودان، ليتم تقسيمها إلى دويلات، يجب أن تنظر إلى مصر كأمة واحدة لا تفرقها مناطق جغرافية، حتى لا نلدغ بكلمات تعزف ألحانها على تفتيت الوطن. كانت هذه عينة من التعليقات التي تلقيتها بعد نشر مقال "شيكابالا والبرادعي في المركب النوبي"، والذي تم نشره قبل بدء الثورة مباشرة، وبالطبع توقفت تلك السلسة مع تسارع الأحداث في الوطن، كنت أهدف إلى التعريف بالمعاناة التي واجهت أهل النوبة منذ زمن بعيد، لم أكن أتوقع أن يشغل الموضوع حيزًا من اهتمام القارئ، ولكن كانت المفاجأة بالنسبة لي هي تلك التعليقات المتكررة، التي رأى أصحابها أن أهل النوبة انفصاليون، وأن مجرد الاهتمام بمطالبهم هو دعوة للتمرد والانفصال، وكأن البحث عن العدالة الضائعة لأي فصيل من الشعب المصري، أصبحت تهمة يجب أن تنفيها فورًا، أستطيع أن أتفهم الدافع النبيل للبعض، والتخوف الذي يراه البعض مشروعًا من كل دعوة تبحث عن مطالب وحقوق فئة معينة، سواء أكانت "نوبية" أو "سيناوية" أو حتى "قبطية"، وخصوصًا بعد مطالعتنا لمشاهد التقسيم في التجربة السودانية والعراقية، ولكن ما أرفضه تمامًا أن ننساق وراء نغمات عنصرية وطائفية، استطاع النظام الحاكم السابق وإعلامه أن يرسخها في أذهاننا، نتيجة تشويه منظم استغرق عقودًا عديدة، كما أرفض أيضًا الإجراءات التصعيدية التي اتخذها أبناء النوبة الأسبوع الماضي من إحراق لمبنى محافظة أسوان، اعتراضًا على تجاهل مطالبهم، فليست هذه هي الطريقة الملائمة لكسب التعاطف. دراسة مهمة قدمت في مؤتمر "الإعلام وقضايا الفقر والمهمشين"، الذي عقد بكلية الإعلام العام الماضي، وتحمل عنوان "النوبيون في مصر..الواقع والصورة الذهنية"، كشفت الدراسة عن تردي الصورة التي تقدمها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عن النوبيين، حيث تظهرهم كحراس عقارات وخدم وسائقين وغير أذكياء، أما الشخصيات النوبية الأكثر شهرة في وسائل الإعلام فقد جاء على رأسها المطرب محمد منير، والشخصية الكرتونية بكار، ولاعب كرة القدم "شيكابالا" (وصلتني العديد من الرسائل تؤكد لي أنه أصوله ليست نوبية). يكمن جزء كبير من المشكلة النوبية أنها تعرضت لتعتيم إعلامي، وتشويه متعمد لفترة طويلة، فلم يعد أغلبنا يعرف عنها سوى القشور، من منا يعرف أنه تم تهجير أكثر من مائة ألف مواطن نوبي في العام 1964، حيث تم تفريقهم عن عمد، ونقلهم إلى أماكن مختلفة ونائية، وظل هناك تعنت مقصود على مدار أكثر من 45 عامًا لرفض عودتهم إلى مواطنهم السابقة، وذلك على الرغم من أن مواطني مدن القناة الذين تعرضوا للتهجير بعد العدوان الإسرائيلي، تم إعادة تسكينهم، وتعويضهم بشكل مقبول؟ من منا يعرف أنه تم سن قانون "بالمقاس" لنزع ملكية أهل النوبة؟ وتركت مدة 15 يوماً فقط كفرصة للمعارضة في تقدير التعويضات التي فرضتها الحكومة، وهي مدة قصيرة لم يتمكن خلالها الكثيرون من الإطلاع على مقدار تعويضاتهم، فضلاً عن جهل أغلبية الأهالي بطرق التظلم، كما فوجئ المتضررون بأن المساكن الجديدة غير جاهزة، ولا الأراضي الزراعية استكمل استصلاحها، ولم يتم تسليمها إلا بعد مرور خمس سنوات، ظل خلالها الأهالي في العراء، ففقد الكثير منهم حياتهم، وأنشئت مقابر خاصة، حملت اسم "الحضانة"، نسبة إلى العدد الكبير من الأطفال المدفون هناك. أما المأساة الأكبر فكانت تتمثل في تقدير التعويضات للمتضررين، حيث قررت الشئون الاجتماعية صرف مبلغ ثلاثة جنيهات كمعاش شهري للأسرة النوبية المهجرة، وهو مبلغ لا يكفي لتغذية ما لدى الأسرة من أغنام، حيث وصل سعر ربطة البرسيم في ذلك الوقت عشرة قروش، والسر في هذه المبالغ الهزيلة أنه تم تقديرها على أسعار عام 1902، وصرفت نصف قيمتها فقط عام 1964، دون أي مراعاة لفروق الأسعار والتضخم، فهل يعقل أن يقدر ثمن النخلة النوبية بخمسين قرشًا وأحيانًا بعشرة قروش؟ بينما النخلة في رشيد ب43 جنيهًا، كذلك فقد تم تقدير فدان الأرض النوبي بثمن بخس وصل إلى عشرين جنيهًا، والمدهش في الأمر أن أكثر من 60% من إجمالي مبلغ التعويضات تم احتسابه كمصاريف إدارية للموظفين العاملين على حصر المتضررين. هل خان التوفيق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في قراءته للمستقبل، عندما زار أهالي النوبة وقت بناء السد العالي، وهناك وقف وألقى خطبته الشهيرة: (أرجو أيها الإخوة المواطنون ألا تشعروا بأي قلق بالنسبة للمستقبل، أنا أشعر أن المستقبل سيكون كريمًا عزيزًا بالنسبة لكم جميعاً، أنا سعيد لأني أرى هذه الروح القوية المتدفقة من كل فرد فيكم، أرجو أن تشعروا أننا نعامل أبناء هذه الأمة معاملة واحدة مبنية على الحق والحرية والمساواة (هتاف)، وأن السد العالي لن يعطى الخيرات للشمال فقط، وتحرموا أنتم منها؛ لأن خيرات السد العالي هي لأبناء الوطن جميعاً). انتهى كلام الرئيس جمال عبد الناصر، ليأتي الدور بعد 45 عامًا بالتمام والكمال على السيد المتهم جمال مبارك، الذي زار نفس المكان، وخطب في مؤتمر للحزب الوطني هناك وأعلن بوضوح أنه (يجب أن يتعايش النوبيون مع واقعهم الراهن، وأن يرتضوا بحرمانهم من حق عودتهم لأراضيهم الأصلية، فبحيرة ناصر تمثل مخزونًا استراتيجيًا لمصر، وأي تواجد بشرى سوف يؤثر على استقرار هذه المخزون، ولاسيما إذا حدث تجميع القرى النوبية في كيان كبير موحد). ولكن ماذا عن المشهد الحالي في أرض النوبة؟ وكيف تم اختطاف مشروع منظمة الغذاء العالمي لتوطين النوبيين في أراضي أجدادهم؟ وكيف تنظر الأجيال الجديدة من شباب النوبة إلى تلك الحقوق؟.. هذا ما سوف نتناوله بالتفصيل في الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]