لو حاولت أن أجمع التعليقات الساخرة والتصريحات المترعة مرارة وإحباطا بعد صدور قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي بإطلاق سراح الصحفي الاسترالي "بتر جريسته" بموجب تشريع استصدره السيسي نفسه يتيح له إطلاق سراح المسجون الذي يحمل جنسية أجنبية ، وهو ما دفع السجين الثاني من معتقلي قناة الجزيرة "محمد فهمي" للتقدم بطلب لإسقاط الجنسية المصرية عنه من أجل أن يحصل على حريته ، لو حاولت جمع التعليقات المرة فلن يكفيني مساحة هذه الزاوية لمدة شهر مقبل ، حالة من الغضب الشديد والسخرية والمرارة تملأ الفضاء المصري الآن ، عندما نصل إلى اللحظة التي نكون فيها أمام الاختيار بين الوطن أو الحرية ، أن تبيع وطنك أو تبيع حريتك ، أو أن تبيع وطنك كشرط للحصول على حريتك ، وحظي السجين الثالث "باهر محمد" بتعاطف واسع بصفته الوحيد بين الثلاثة الذي لا يملك جنسية دولة أخرى ، فحظه السيء حسب التعليقات المرة أنه لا يملك سوى الجنسية المصرية ، وبالتالي فلا يحق له الحصول على حريته . ما حدث في تلك الواقعة دليل جديد على مستوى التخبط والضياع وانعدام الرؤية في السياسات التي تتحكم في الدولة وقراراتها منذ 3 يوليو 2013 وحتى اليوم ، قضية قناة الجزيرة من بدايتها كانت عبثا ، ولا يوجد مخلوق واحد خارج مصر أو داخلها يقتنع بأنها كانت قضية حقيقية ، وكان العالم الخارجي ينظر إليها باعتبارها جزءا من ضغوط سياسية لحمل القناة القطرية على أن توقف نقدها للنظام الجديد ، وأجمعت منظمات حقوق الإنسان العالمية على إدانة السلطات المصرية بسببها وبشكل دائم ومتكرر ، وهذه القضية ضمن مجموعة من القضايا الأخرى التي تسببت في تشويه سمعة القضاء المصري في الخارج بصورة غير مسبوقة ، ثم انتهت إلى إهانة الدولة المصرية ذاتها وإهانة القضاء معها داخليا ، عندما بدأت الدولة بجميع أجهزتها التنفيذية والتشريعية تبحث عن مخرج من "الورطة" ، وكيف يتم إطلاق سراح هؤلاء السجناء ، فكان أن اضطر السيسي إلى اصدار قرار بقانون "تشريع" يتيح له الحق في أن يطلق سراح أي سجين قيد الحبس الاحتياطي أو رهن القضاء ولم يبت في شأنه بحكم نهائي ، ولأن الرؤية كان "ضائعة" فقد حدد التشريع شرطا مذهلا للإفراج ومنح السجين حريته ، وهو أن يكون أجنبيا ، وليس مصريا ، وفهم وقتها أن هذا التشريع قصد به إتاحة الفرصة للرئيس لإنقاذ سمعة البلد بسبب احتجاز مواطنين أجانب ، فيمكنه أن يوقف إجراءات القضاء ويقول له : شكرا ، فأنا قررت أن أسلمه لبلاده ولا داعي لتتعبوا نفسكم ! ، أي أن هذا التشريع قصد به تجميل وجه النظام أمام العالم الخارجي دون أي اعتبار للعدالة أو لحقوق الإنسان أو حتى أبسط معاني المساواة ، وأنه تشريع تم تفصيله على مقاس الصحفي الاسترالي ، غير أن الموقف تسبب في ردود فعل أكثر خطورة ، عرضت الإحساس بالانتماء الوطني للتلاشي ، وتظهر الدولة المصرية غير أمينة على مواطنيها ولا على تدعيم ولائهم لوطنهم . الواقعة تأتي في سياق يشي بحالة من التخبط غير مسبوقة في تاريخ مصر ، فقد بدأت أعمال عنف مجهولة تطال معارضين وأسرهم وبيوتهم بعد حديث الرئيس السيسي في خطابه أمس عن أنه لن يكبل يد المصريين عن الثأر لشهداء مصر ، فأصبح كل شخص وربما كل جهاز يفسر هذا الكلام على هواه وبطريقته الخاصة ، وأعتقد أن التوابع المروعة لهذا الكلام تستدعي من السيسي أن يصدر بيانا رئاسيا عاجلا يوضح فيه مقصده من هذا التصريح ، كما تنتشر دعوات واسعة للقتل والسحق والفرم والإبادة والحرق لكل معارضي السيسي وخاصة من يوصمون بأنهم إخوان ، وهي صفة تقديرية بطبيعة الحال ستترك لتقدير كل شخص توصيفا وتطبيقا ، مما يضع مصر على أبواب حرب أهلية حقيقية ، ناهيك عن أن هذه السلوكيات والدعوات تصنف كأعمال فاشية صريحة . لم أشعر بخوف على وطني كما أشعر به الآن ، ولم أر صورة المستقبل سوداوية كما أراها الآن ، وأؤكد على أن ما يحدث في سيناء على بشاعته وخطورته ليس هو الخطر الأكبر على مصر وشعبها اليوم ، وأرجو أن أكون مخطئا ، وأن يفتح الله لهذا البلد الطيب نافذة نور ورشد يستعيد بها وعيه ، وسلامه الاجتماعي ، ووحدته ، وثقته بمستقبل أفضل .