جاء سقوط العاصمة اليمنية صنعاء -كرابع عاصمة عربية بعد بيروت ودمشق وبغداد- في ميزان القوى الإقليمي الإيراني كمؤشر دال على عدة أمور: أولها: تغير ميزان القوى الاستراتيجي في المنطقة بين الدول أعمدة التحالفات والصراعات. وثانيها: مؤشر أكثر وضوحا وهو تداخل معادلات الصراع الإقليمي والدولي، وبدء مرحلة إعادة رسم الخرائط الجديدة، بعد أن استنفدت خرائط سايكس بيكو أهدافها. وثالثها: أن قوة السلاح وليس السياسة والحوار هي من يفرض الكلمة النهائية على مخرجات أي عملية سياسية في مستقبل اليمن السعيد. وعلى مدار أربع سنوات على بداية الربيع العربي وانقسام العالم العربي بين مؤيد له ومعارض تبعا لاتجاه المصالح وحجم شبكات التحالفات وقوتها كانت تكل تداعيات الأحداث داخل الحدود الوطنية وعلى التخوم. فبعض القوى العربية التي رأت في الحراك الشعبي خطرا على استقرار أوضاعها في حكمها لشعوبها عملت على إفشاله أو على الأقل إبطاء خطوات سيره نحو التغيير الشامل، وبعض القوى العربية الإقليمية التي رأت أنه ربما يحمل لها التغيير نوعا جديدا من التحالفات والمصالح دعمت اتجاه التغيير بإطلاق وبنت تحالفاتها على استمراره لما لا نهاية وسدت على نفسها خط العودة وهو ما يتناقض مع طبيعة السياسة عموما والسياسات الدولية خصوصا التي تقوم على المصالح المطلقة وعلى بناء شبكات من التحالفات تساند على اختيارات الدولة وخطها. ظل الربيع العربي بين شد وجذب بين العواصم العربية والإقليمية حسب درجة المصلحة وشدتها وقوة الضغوط المناوئة في الاتجاه الآخر حتى كان سقوط صنعاء مرحلة فاصلة: فحتى أشد أعداء التغيير لا يريدون استقرارا يجعل من العدو الإقليمي جارا مباشرا على الحدود، وتتداخل المصالح والقبائل بشكل يجعل من العسير تبيان اتجاه الريح حينما تأتي العواصف. وحتى أشد المؤيدين لنظام 3 يوليو في مصر لا يمكنه قبول أن تسيطر قوة سياسية مختلفة أيديولوجيا ومصالحا وولاءً وتبعية على مضيق باب المندب أو أن تجعل من المجرى الملاحي المائي العالمي وهو قناة السويس (ومصدر الدخل الرئيس في وقت أزمة اقتصادية عاصفة) في مهب الريح أو في اتجاه عواصف هوجاء لا تعرف سقفا لطموح ولا تعرف حجما لتأثير. فما قاله عبد الملك الحوثي نفسه من أن طموحهم لا يعرف الحدود ينبئ أن التغيير في اليمن لن يقتصر على اليمن وحده ولن يقف عند حدود السيطرة على باب المندب وتهديد قناة السويس، بل يمكن القول أنه في إطار لعبة إقليمية كبرى تتداخل فيها المطالب المذهبية مع الطموحات النووية على مذبح السياسة الدولية فمن ترك تنظيم داعش يتوسع ويتمدد فوق مساحات دول عربية محترمة لا يعبأ بالحدود التي أنتجتها سايكس بيكو، ويبدو أنها قد استنفدت أغراضها تاريخيا، ويبدو أنه قد حان الوقت لتغييرها أو على الأقل إجراء بعض التعديلات عليها لتسمح ببروز فاعلين جدد في الساحة الإقليمية، وفي الحرب والصراع المذهبي لا حدود ولا قيود ولا سقف للتطلعات ولا منتهى للتغيير. منطقتنا العربية (دولا وشعوبا) وتخومها الإقليمية (إيران وتركيا) والعدو المستوطن (إسرائيل) على موعد مع التغيير: وإن لم يكن تغييرا شاملا فعلى الأقل تغيير بعض المعادلات الإقليمية الحاكمة لجوهر تفاعلات المنطقة. وإن لم يكن تغييرا شاملا فعلى الأقل تلاشي بعض مسلمات الأمس القريب عن الحدود والأعداء التقليديين والحلفاء التقليديين. وإن لم يكن تغييرا شاملا فعلى الأقل فعلى الأقل تغيير بعض معالم شبكات التحالفات (الإقليمية والدولية). فلا يمكن فهم سكوت نظام السيسي عن انقلاب الحوثي، ولا يمكن فهم السكوت السعودي عن التغيير على حدودها، ولا يمكن فهم الانتظار التركي والمعادلات الحاكمة لمجمل سياسات الإقليم تتبدل ويعاد تشكيلها وتتوسع رقعة العواصم التي تسيطر عليها إيران. ويبدو أن زمن الحروب بالوكالة ولّى أو على الأقل على وشك الانقضاء، وليس ثمة بديل إلا أن يتدخل كل طرف أو فاعل إقليمي بشكل مباشر لحماية حدوده ومصالحه، وينزل ساحة الصراع بكل ما أوتى من قوة ليحافظ على حديقته الخلفية، ومجاله الحيوي، ومصالحه الاستراتيجية وشبكات تحالفه الجوهرية فسكين الانقلاب الحوثي في اليمن قد بلغ عظم كل المصالح الاستراتيجية لدول إقليمية فاعلة لا يمكنها السكوت عنه حتى لو كانت كل دولة منهم داخليا عندها ما يكفيها من المشكلات والأزمات والظروف الدقيقة، سواء أكانت غارقة في أزمة شرعية، أو في أزمة انتقال سلطة أو تكتف حدود حركتها طموحات نووية جامحة، أو تقيد فعلها الإقليمي شبكة مصالح عميقة مع الفاعلين الدوليين الأساسيين ولا يمكن أن تتحرك دون موافقتهم المبدئية على الانخراط في معمعة تغيير الخرائط والحدود.