لم يكن سقوط صنعاء بيد المسلحين الحوثيين إلا مقدمة صغرى لإسقاط اليمن كله، بعد أن فرض الحوثيون شروطهم على مائدة المفاوضات بقوة السلاح، وبقوة حصار العاصمة، وبقوة انتهاك مؤسسات الدولة -إن كان لا زال ثمة دولة في اليمن السعيد-. سقوط صنعاء ومن ثم سقوط اليمن هو مقدمات ضرورية لتغير خرائط المنطقة العربية بكاملها، وجوارها الجغرافي والحضاري، تلك المنطقة الممتدة من العالم والتي أطلقوا عليها بأثر من المركزية الغربية "الشرق الأوسط". سقوط صنعاء ومن ثم سقوط اليمن هو أحد أهم الشروط ضرورية لإعادة تشكيل التوازنات المنطقة بل وخلق توازنات جديدة، وإعادة ترتيب شبكات التحالفات والصراعات، وبروز فاعلين جدد وقضايا جديدة وتحالفات جديدة تفرض أجندتها وجدول أعمالها وأطرافها وطبيعة الوكلاء المحليين والإقليميين على مجمل الأحداث في الفترة القادمة. الحوثيون في اليمن ليسوا طرفا -أو حتى لاعبا- مستقلا، تماما كما هو حزب الله في لبنان، تماما كبعض الأقليات الشيعية في العالم العربي وخاصة في بعض بلدان الخليج، هذه كلها أوراق لعب في المعترك الدولي والإقليمي بيد إيران تستخدمها في الوقت الذي تريد وعندما تحتاجها. وإيران كفاعل إقليمي ودولي تراهن على استمرار مشروعها النووي ولو بموافقة أو بمراقبة الدول الكبرى، والدول الكبرى لا يهمها في هذا العالم إلا مصالحها الوطنية، واستمرار نفوذها في هذه البقعة من العالم، والحفاظ على هذه المصالح هي الأهداف الاستراتيجية العليا التي يرهن بها استمرار الإدارة الحاكمة في كل بلد غربي، هذه طبيعة تلك النظم السياسية، لا مكان فيها لحكام فرعون ولا مكان فيها لحاكم إله أو نصف إله أو الحاكم الملهم الضرورة. سقوط صنعاء بموقعها الاستراتيجية مقدمة لنمط جديد من الصراعات، نمط يقوم على إحداث اختراقات مؤثرة من داخل الكيان العربي، اختراقات من حيث الداخل المحلي، ومن حيث الحواف الإقليمية ومن حيث استغلال الحدود والامتدادات المشتركة بين الدول. لقد انتقلت حركة الصراعات الدولية منذ زمن من الهوامش والأطراف إلى المركز والقلب. ويخطئ من يظن أنه يستطيع تحييد اللعبة لصالحه أو الدفع بها في اتجاه محدد ثم التوقف عن الاستمرار، وينسى قوة الدفع الذاتي التي لا تستأذن احد وهي تتحرك، وأن كرة اللهب لا تعرف الحدود الجغرافية خاصة إذا تداخل فيها المذهبي بالعرقي بالسياسي، وتداخل فيها الإقليمي بالدولي. وإذا كان سقوط صنعاء تم بفعل تدخل أطراف داخلية محلية وأخرى إقليمية، بمعاونة وقبول تفاهمات دولية كبرى، فإن القادم سيتم بنفس المعادلات، والقادم أسوأ، والقادم أشد سوادا ولا أستثني أحدا. ويخطئ من يظن أنه يستطيع أن يتحكم بلعبة كبرى تتعدد أطرافها بل وتتصارع ولكل منهم أهداف مرحلية وأخرى نهائية، والاشتراك في بعض مراحل الطريق لا يعني استمرار التحالف إلى نهايته، والمصالح كما تتصالح تتصارع. والأطراف الدولية لا ترحم، وإذا تعارضت تحالفاتها مع مصالحها ضحت بتحالفاتها، خاصة إذا لم تتعد هذه التحالفات جنود على لعبة الشطرنج الدولية، والبنادق لا يبكي على سقوطها أحد ولا يتذكرها أحد. إن أي عملية استشراف دقيقة للمستقبل العربي تنبئ بوضوح أن سايكس بيكو يعاد كتابتها من قبل الأطراف الدولية التي خطتها أول مرة، فلقد انتهت فترة صلاحيتها، وليس هناك مانع من خلق أطراف أخرى ولو كانت تنظيمات يعلنون الحرب عليها بحجة الإرهاب. وإذا كان هناك من شارك في عملية إسقاط صنعاء لأهداف مرحلية ولعداوات ظرفية، فلا يأمن أن يضحى به هو على مذبح إعادة تشكيل تحالفات وكيانات وخلق ما يسمى "شرق أوسط جديد" مغاير تماما للشرق الأوسط القديم الذي تشكلت حدوده وتكونت ملامحه بعد الحرب الثانية، ثم أعيد تشكيله مرة ثانية بعد انتهاء الحرب الباردة وخروج الاتحاد السوفيتي من معادلات الصراع الوجودي مع الولاياتالمتحدة والعالم الغربي كله. الموقع الاستراتيجي لليمن وخطورة باب المندب كان من المفترض أن يوحي للأطراف التي ساهمت في إسقاط اليمن –سواء أكانت داخلية محلية أو إقليمية دولية- أن لعبة الحرب والصراع بدأت ولم تنته وأن إخراج أحد الفاعلين المحليين أو حتى الإقليميين لا يساوى أن تنام آمنا وقد أصبح على حدودك: عدوك الوجودي. والمهدد الاستراتيجي. والخطر الأكبر. واللاعب الذي ليس لطموحاته منتهى، ولا يتورع عن فعل أي شيء في سبيل تحقيق مصالحه، وبلوغ الحلم النووي والتحول لشرطي المنطقة، ومن يفاوض بأدواته فيها سواء أكانت تكوينات مسلحة أو جماعات مذهبية أو أقليات عرقية. الأمر جد لا هزل فيه، وقد دارت عجلة الصراع داخل الحدود وعلى التخوم وفي القلب، والتهديد وجودي والتحالفات دولية عظمى وليس لضحاياها ثمن ولا عد.