وعطفًا على ما ذكرته في الحلقة الماضية من أن العفة أصل من أصول اليهودية والمسيحية، وأن الاستباحة طرأت عليهما من المواريث الرومانية والإغريقية ثم العلمانية المتمردة على الكنيسة، فإن القوم لما ثاروا، ورفعوا شعار (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس) تطرفوا في الهمجية الجنسية، والاستباحة الخلقية بشكل شاذ، لا نزال نراه، لكننا لا نعدم بين الحين والحين ظهور أفكار تطالب بالعفة، وتنادي بها، وتتطرف في المناداة بها، كتلك الفكرة التي ظهرت في القرون الوسطى لفرض العفة قهرًا، وبعيدًا عن الوازع الديني الذاتي، والتي بسببها اخترع حزام العفة Chastity Belt الذي كان الرجل يثبته على خصر امرأته أو ابنته أو (عشيقته) ليضمن بقاءها له وحده، وكان يُصنع من الجلد أو الحديد لمنع حدوث اللقاء الجنسي، أو حتى الاغتصاب، وهو طوق جلدي أو حديدي له قفل، يلتف حول خصر المرأة فيغلق الفرج، باستثناء فتحات ضيقة لقضاء الحاجة، ويحتفظ الزوج بمفتاحه معه، واخترع في إيطاليا عام 1400. وقيل إن الملكة الآشورية سميراميس 900 ق/م هي أول من اخترعه لمنع انتشار الفاحشة في بلادها! وكان بعض هؤلاء قد وفدوا إلى الشرق مع الحروب الصليبية، وحمل بعضهم لقب الفارس، أو النبيل Noble – وهي كلمة عربية الأصل - وكان هؤلاء النبلاء يخرجون في مبارزات ويغيبون عن زوجاتهم لشهور طويلة، فابتدعوا هذا «الحزام» لضمان عفة نسائهم وسلامة بيوتهم، ونسي أولئكم أن الشرف والعفة شيء نابع من الضمير، وقيمة أو وازع ديني يحرص عليه الإنسان. والغريب أنهم في أحد المتاحف التي تعرض نماذج من حزام العفة وضعوا اللوحة الخلفية لهذه الأحزمة، وقد رسم عليها أعرابي أشعث الشعر يحمل سيفًا ودرعًا، ومن ورائه أهرامات الجيزة الثلاثة، في محاولة لإلصاق تهمة "حزام العفة" بالعرب عامة – عن إسلام أونلاين - مع أن من الثابت أن حزام العفة كان موجودًا عند الرومان والمسيحيين وبالذات عند نصارى الغرب، ولم يعرف عن العرب المسلمين، ولا توجد أية إشارات تاريخية تؤكد أن العرب اخترعوه أو استخدموه. وهو مصطلح لم يتم تداوله في المصطلحات العربية، حيث لم يتم ذكره في أي معجم قديم، ولا في حكاية شعبية أو قصيدة ولا دليل مادي عليه. ولا شك أن هذا الفكر المنحرف لعقلية المرأة هو الذي أنتج هذا التصرف، فالعفة بالأساس داخلية، لأن المرأة والرجل إذا اقتنع أيهما بشيء فسيعمله؛ بغض النظر عن العقبات والموانع، إلا أن مخترعي الحزام اهتموا بالعفة الشكلية. وانتقامًا من منطق حزام العفة تطرفت الغربيات - بعد انتشار التحرر الأخلاقي، والرغبة في التخلص من الدين، وفك العقد التي فرضها الإقطاع والرهبان عليهم، ولم يكتبها عليهم رب العالمين (ما فرضناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) فاخترعوا مليون طريقة لانتهاك العفة، والزيجات الحرام، والعلاقات الشاذة، وكثر أولاد السفاح في بعض المجتمعات حتى فاقوا أبناء الزواج الشرعي بكثير في بعض الأحيان. ولا أحتاج أن أتوسع في إيراد الأمثلة، لكن حسبي أن أشير إلى أنه بدأت حركات تطالب بالعودة للعفة من جديد؛ في مواجهة هذا التطرف الذي لم ترفضه الكنيسة، بل باركته في أحيان كثيرة! فقد شنت منظمة العناية بالمرأة الأمريكية - وهي أكبر منظمة أمريكية متصلة بالإدارة ورجال الحكم - حملة جديدة وقوية للقضاء على ظاهرة حمل الفتيات الأمريكيات قبل الزواج، والتوعية بأهمية الحفاظ على العذرية! وخصصت المنظمة يوم الثاني من مايو من كل عام، لتجديد الدعوة للقضاء على الحمل والممارسة الجنسية قبل الزواج. وأوضح دكتور جانيس كراوس المشرف العام على الحملة، أحد مؤسسي المنظمة، أن البرنامج لا يدعو لمنع الحمل والإجهاض قبل الزواج وحسب، بل يتطرق بعمق إلى أساس قيمة النشاط الجنسي بشكل عام، ومدى ارتباطه باحترام الشخص لنفسه ولإنسانيته، كما يدعو لحصره في إطار الزواج الرسمي، والتعامل معه كعامل أساسي لإنشاء أسرة سوية مترابطة وليس كشهوة عابرة! وتعجب "كراوس" من مهاجمة معسكر اليسار لمثل هذه البرامج الرائجة في الولاياتالمتحدة، التي ظهرت ثمارها مبكرًا، حيث رصدت الإحصائيات الحكومية الرسمية انقلابًا كبيرًا في نتائج الاتجاهات الجنسية؛ فيما يتعلق بالمراهقة والنشاط الجنسي، وحمل المراهقات قبل الزواج، وإجهاض المراهقات قبل الزواج! وخلال الأعوام الأخيرة احتفلت قطاعات من الأمريكان بيوم "النقاء الجنسي" رافعة شعار "كن جزءًا من ثقافة مضادة، واختر حياة الطهارة الجنسية" وصنعوا لذلك خواتم Purity rings يلبسها المنتمون لهذه المجموعات، وتعود فكرة هذا اليوم لإحدى المنظمات الطلابية الداعية للحرية، وبحسب القائمين عليها فإنها تستهدف به القضاء على المنظمات التي تدعو الطلاب من مختلف الأعمار إلى اكتشاف نشاطهم الجنسي في سن مبكرة ومع أكثر من شريك. ويوجد في الولاياتالمتحدةالأمريكية أكثر من 700 برنامج تدعو إلى العفة قبل الزواج، تتبناها عشرات الهيئات والجمعيات والمؤسسات التعليمية! وقد قرأت في أحد الإعلانات الكنسية حول هذا الخاتم ما يلي: Has your teen been begging you for one of those chastity rings that everyone else is wearing in youth group? The chances are good that those rings either cost a fortune or were made by slave-wage workers in China... maybe even both. Purity rings are powerful reminder to teenagers (and older people) that the human body is sacred and saved for a special purpose. This symbol is valuable to the wearer whether he or she is in a group, with one other person or even alone. You and your child know this is a priceless expression of love and you no longer have to make the purchase a moral or financial dilemma. You can give your teen the ring he or she wants without breaking the bank and know that you're supporting American artisans and American businesses. اللطيف أن حزام العفة بدأ يعود من جديد، فقد نشرت صحيفة الأهرام حادثة طريفة بطلها زوج أرجنتيني - ليس عربيًّا ولا مسلمًا - فرض على زوجته حزام العفة لحمايتها من أي اعتداء جنسي قد تتعرض له خلال عملها في البيوت كخادمة! وبعدما تقدمت الزوجة بشكوى ضد زوجها في المحكمة، تبين أن الزوج الذي يعمل سائق سيارة لم يكتف فقط بإلزامها بحزام العفة خارج المنزل، بل اعتاد على تطويق فخذيها وخصرها بسلاسل غليظة، يغلقها بقفل يحتفظ بمفتاحه قبل أن يغادر المنزل؛ الأمر الذي كان يمنعها حتى من الذهاب إلى المرحاض! وفي عصر الثورة التكنولوجية تطور حزام العفة هو أيضًا لتظهر عدة أفكار لأجهزة إلكترونية حديثة صغيرة الحجم وسهلة الاستخدام، يتم توظيفها للكشف عن الخيانة الزوجية والتأكد من النقاء الجنسي! ولم يكن بغريب أن تتولى اليابان والصين القيادة في هذا المجال؛ فمؤخرًا أعلن رجل ياباني عن اختراع شريط إلكتروني صغير يتم تثبيته تحت ثياب المرأة، ويعمل على تسجيل عدد المرات التي تنتزع فيها ثيابها، ومدة كل فترة، كما أن الجهاز مزود بكاميرا صغيرة، تلتقط أوتوماتيكيًّا صورًا للأشياء القريبة من المرأة في أثناء خلعها لثيابها، وفي ثوان معدودة يرسل كل هذه المعلومات إلى البريد الإلكتروني الخاص بالزوج! كما طور شرطي صيني الجنسية فكرة حزام العفة، حيث اخترع سروالًا إلكترونيًّا لا يمكن فتحه وإغلاقه إلا بكلمة سر مشفرة بذبذبات إلكترونية خاصة! أنا لا أشك لحظة أن مثل هذه الفكرة الغبية، لو كانت قد ظهرت يومًا في بلاد المسلمين، أو ذكرت في أحد الكتب ولو بالإشارة، لخرج علينا مجموعات (حبسك عليه) وفضحونا بجلاجل، وطالبوا برأس النبي صلى الله عليه وسلم، وتفننوا في سبنا وإهانتنا.. يالروعة الإسلام الذي زرع حزام العفة في ضمائر المحصنات الغافلات المؤمنات!