ما أجمل العودة ...! هل تأملت لهفة الغريب عند عودته إلى الوطن .. أم لمحت بريق عيناي أم تستقبل ولدها وقلبه يسابق خطواته الصغيرة ليرتمي في أحضانها بعد عودته في أول يوم من مدرسته...بل ما أجمل لهفة فراخ الطير عندما تروح الأم بفم ملئ بالطعام .. هل تأملت تعبيرات الوجه وحركة الأقدام ورقصة الأجنحة ورعشة الأطراف... أم هل تحسست نبضات القلب العاصي عند العودة إلى الله .. يا لله ..!!!.ما أعذب مشاعر العائدين وما أصدق دموعهم ! العودة.. هي إعادة الحياة في أوردة تيبست دماؤها من الحزن أو الفراق أو الضياع في صحراء الحياة .. هي الماء الذي يحي الأرض الموات .. هي تَورد الوجوه التي علتها صفرة الكمد واليأس ... هي أنس القلوب التي أضنتها الوحدة وطول السهاد . إننا لا نشعر بجمال الأشياء إلا بعد عودتها إلينا وكأن العودة تذكير لنا بقيمة ما حولنا من نعم وأحبة وأصدقاء . إن الإنسان يفقد إدراك قيمة وأهمية ما حوله - ذلك أنه تعود على بقاء كل ما حوله وكأنه من المسلمات ويجبن أن يتخيل الحياة دون أي من هذه الأشياء أو الأشخاص ولكنها حين تغيب يدرك أن بعضا منه قد مات فيتحسس الشروخ التي خلفها غيابها في نفسه .. ولكن سرعان ما تدب في العروق الحياة عند عودة الغائب وري الظمآن وهنا يدرك الإنسان معنى العودة وقيمة الحياة . أن كل معاني العودة الراقية تتجسد في شهر رمضان فهو كالحبيب الذي أضنى فراقه القلوب ثم يعود فيضمهم إليه .. بل قل هو الشجرة الوارفة الظلال ، المنضدة الثمار التي كلما قست بنا الحياة وقسونا على أنفسنا فيها إرتمينا تحت أقدامها لننعم بالسكينة ونستعيد توازن النفس والجسد ... رمضان يعيد تمرد النفوس التي ضخمتها الثروات ونفختها المناصب إلى حجمها الطبيعي .. يعيد إليها تواضعها عند إحساسها بالجوع أو العطش فتشعر بالآخر المحروم فينعم الفقير بعودة الغني الذي عاد في رحاب رمضان . رمضان .. ذاك الميزان الحساس و الطبيب البارع و المهندس المبدع فالكل مشترك في مهمة واحدة وهي إعادة الأمور إلى نصابها .. إلى توازنها ..رمضان يعيد تناغم النفس والأعضاء داخل الجسد الواحد ويعيد تناغم الأفراد داخل المجتمع الواحد فيدرك الجميع في إيقاع متجانس هادئ متواضع أن للكون إله وأن للأخرين حقوق فيعود الجميع إلى صوابه ويتصالح الخلق مع أنفسهم ولما لا فقد عاد رمضان إليهم ليعود الجميع إلى نفسه . العودة هي التوبة وهي واحة المسافر عبر صحراء الحياة ليرتوي من مائها وينعم بإيقاع سكينتها الخافت الذي تطرب لسماعه القلوب ورمضان هو نبع العطشى إلى عفو الله وطعام العائدين من سفر طويل يلملم شتات الأنفس ويعيد للروح المنهكة تألقها وصفاؤها فتتناغم مع الجسد الذي يضمها ويسيران معا في طريق العودة إلى الله . الآن أدرك المعاني الرقراقة في دعاءه صلى الله عليه وسلم " اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان " نعم إنه بيت الزاد وراحلة العصاة للعودة إلى الله .. فاغترفوا إخواني من بركاته فقد لا يعود ثانية وقد لا تعود أنت إليه في العام القادم .. متعكم الله بعودة رمضان أعواما عديدة.