بدأت الصيام في السابعة من عمري كنت في الصف الثاني الابتدائي وجاء رمضان وقتها في عز الشتاء القارس ، في البداية رفضت أمي صيامي لصغر سني وقلة شهيتي ونحافتي وقتها وخاصة أنني أذهب للمدرسة وأستيقظ مبكرة ولكن مع إلحاحي وافقت بشرط أن أصحو لتناول السحور . لم أكن أعرف أن هذا الشرط قاسيا إلا حين كانت توقظني من عز النومه الحلوه لأقوم تاركة فراشي الدافئ و أنا أرتعد من البرد ، كنت أجلس للسحور شبه نائمه ونصف مستيقظة وحين ألمح طبق الخضروات ( خيار وخس وجرجير ) أشعر بالمزيد من البرد فالخضار مبلل بالماء وكنت أكتفي بلقمة أو لقمتين من طبق الفول وسلطانية الزبادي التي كانت إجبارية . كان الراديو مفتوحا علي برنامج ( أحسن القصص ) وكنت أمنحه أذني وأتعرف لأول مره علي قصة سيدنا يوسف عليه السلام وكان هذا هو الشئ الجيد الوحيد الذي استمتع به ، ثم القرآن الكريم وصلاة الفجر والعودة السريعة إلي الفراش . في المدرسة كنت أشعر بخفة الطيور و أستنشق عبير رمضان بقلبي وروحي ، وبمصروفي اليومي الذي كانت أمي تمنحه لي حتي تعطيني فرصة أخيرة للإفطار إذا شعرت بالتعب ، ولكني كنت أشتري به أي شئ من أمام المدرسة مثل بعض اليوسفي الصغير الأخضر وحين أحضره للبيت تصاب أمي بالإحباط وتقول ( لدينا موز وبرتقال ) بعد الإفطار أحاول أن آكل اليوسفي فلا أستطيع و أتعجب فقد كان يبدو لي شهيا جدا قبل الإفطار . تبقي في ذاكرتي طريقة تربيتنا زمان والتي كانت تجمع بين الحنان والحزم والتفاهم ، بلا تسلط وقمع و أوامر فوقية ودون تدليل مفسد وترك الحبل علي غاربه ، فلقد استفدت بأن هناك قواعد يجب احترامها ( لابد من السحور ) وذلك وفقا لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم ( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر ) وأمره للصائمين ( تسحروا فإن في السحور بركة ) نعم هي بركة تعين الجسد وتترك ذكريات رمضانية و علامة طيبة في الروح رغم مضي عشرات السنين ، تركت لي أمي مبكرا إمكانية اتخاذ قرار وتحمل تبعاته وتنمية الشعور بالمسئولية . في تقديري أن صراع الأجيال هو جزء أساسي من أزماتنا الحالية سواء داخل البيت علي مستوي الأسرة ، أو داخل الوطن علي مستوي المجتمع ، أسوأ أخطاء مبارك كرئيس هو طول فترة الحكم واستبداده هو و أقرانه من الشيوخ بالحكم والسلطة وقمع الشباب وعدم الاستماع لهم رغم محاولاتهم المستميتة والمتكررة لرفع أصواتهم إليه تشكو معاناتهم من التهميش وعدم المشاركة والقمع وانعدام فرص الحلم بالعمل والزواج وحالة الانسداد السياسي والاجتماعي غير المسبوقة والتي جعلت مصر تشبه قدرا يغلي وقد جلست النخبة الحاكمة علي غطاء القدر تحكم إغلاقه وكتمان فورانه . وكانت قشة التوريث التي قصمت ظهر بعير الصبر وأدت إلي انفجار القدر بما فيه لتسقط النخبة وينهار النظام ويستمر الفوران الذي صار من الصعب السيطرة عليه أو إعادته كما كان . وعلي قدر تعاطفي و إعجابي وحماسي الشديد لشباب الثورة في بدايتها علي قدر خوفي من حديث بعضهم اليوم وهو يعلن رفضه التام لأي مشاركة أو نصح من الكبار ، لقد ضعفت حلقات الوصل والتناغم بين الأجيال ، يحتاج الوطن حكمة وخبرة الكبار ( حتي إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك ) ( الأحقاف 15 ) سن الأربعين هو الأوج والاكتمال للقدرات الإنسانية ،وقوة وفتوة وحماسة الشباب كما وصفهم المولي عز و جل في سورة الكهف ( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدي ) وما ندفعه اليوم من انقسام وتناحر وخسائر هو ضريبة تصاعدية لعدم التوافق والتفاهم وانعدام الثقة بين الأجيال طوال عقود . البيوت السعيدة حقا هي التي تنجح في اجتياز فجوة الأجيال ويسير البيت بحكمة وخبرة الكبار الذين يتفهمون الصغار ويحتوونهم ويقدرون استقلاليتهم وحماس وقوة الشباب الذي يضيف المزيد من الانجاز للأسرة ويرد الجميل للأهل . الشفافية والصدق والحوار المتبادل والسماح بالرأي الآخر واحترام الاختلاف والمشاركة وتحقيق الذات وتقديرها هو ما يتعطش له الشباب اليوم لإعادة بناء جسور الثقة مع الكبار وحتي يسير الوطن في طريق النهضة علي ساقين قويتين الخبرة والحماسة . [email protected]