هل تخصصنا فى تبديد أعظم وأروع ما يتيحه المولى عز وجل لنا ؟ لو كان التبديد أو التفريط يدور فى دائرة ملكية شخص أو حتى فئة، لهان الأمر، ولكنه يشمل الوطن كله، حاضرا مستقبلا، كيف؟ فى أكتوبر 1973، فاجأت القوت المسلحة المصرية العالم بخطة تحرير لأرض الوطن المحتل، تجاوزت فيها الكثير من التوقعات والاحتمالات، بما يدخل فى باب المعجزات العسكرية، لتمحو بذلك عار هزيمة لم يكن لها يد فيها، بقدر ما كان للقيادة السياسية والعسكرية عام 1967، لكن ماذا فعلنا بتباشير هذا النصر المذهل غير العادى؟ الغريب أن القيادة السياسية والعسكرية التى كانت وراء الانتصار، هى نفسها التى لم تنجح فى المحافظة عليه، لا مجرد تطويره والحصول على المزيد، وإذا بنتيجة عجيبة، وخاصة عندما نقارنها بما حدث فى حرب 1956، فحقيقة الأمر أننا لم ننتصر عسكريا بالمعنى المعروف فى تلك الحرب، لكن حنكة القيادة السياسية حولت الهزيمة إلى مكاسب ، فظهرنا وكأننا انتصرنا، على قاعدة أن العبرة فى الأمور بخواتيمها، بينما فى حرب 1973، كنا منتصرين، لكن الإدارة السياسية ضيّعت علينا تداعيات هذا النصر العظيم، فإذا بمصر تبدأ منذ ذلك الحين، ترتهن إرادتها بإرادة الكيان الصهيونى، ومَن وراء الكيان الصهيونى ، بل و" تتقزم" فى الكثير من المجالات، وأبرزها المكانة الإقليمية والريادة السياسية. وفى الخامس والعشرين من يناير عام 2011 شهد العالم بعين الانبهار والتعجب، خروج ملايين، بغير أسلحة، وبحناجرهم، وقلوبهم الممتلئة وطنية وحماسا، وإرادتهم المرتكزة على أعمدة عزم وصلابة، فإذا بأقسى وأظلم وأفسد نظام شهدته مصر، منذ عهد بعض المماليك، يتهاوى كورق الشجر الذى جف وافتقد الحياة. ثم إذا بثورة أخرى تتفجر فى عقول وقلوب كل مصرى، بأن مصر سوف تقفز إلى مكانتها التى تستحقها فى الريادة التاريخية... ويمر يوم وراء يوم ،والآمال تتوقف، والإرادة يتسلل إليها الخَوَر والفتور... يمر يوم وراء يوم، وأفراد العصابة الذين نهبوا مصر، لا ينالون ما يستحقون.. يمر يوم وراء يوم ، لتجمع وتضرب وتقسم وتطرح، ثم تحسب المحصلة، لتجد أن حصيلة ستة شهور، لا تعدو أن تكون بعض نقش على رمال، يمكن أن تذروها الرياح، وأخشى أن تكون المحصلة هى نقش على الماء، مما يكون أقسى وأمر وأوجع للقلوب! المجلس العسكرى، الذى لا ننسى أبدا وقفته الوطنية الرائعة، فى الانحياز إلى الثورة، جعلنا نتطلع إلى المزيد، وجعلنا نطمح ، ونطمح ؟ لكنه، مع كل هذا التقدير، يصدمنا بما يبدو أنه لم يُقدر أن الذى طال بهم الجوع إلى العدل، وطال بهم العطش للحرية، وطال بهم الشوق إلى يُعوضوا مشاعر مقهورين ومنهوبين، يريدون ما يتم فى يومين يتم فى يوم ، وما يتم فى ساعتين يتم فى ساعة، لكن الآية انعكست، فإذا بما يتم فى يوم يتم فى يومين، وما يتم فى ساعة يتم فى ساعتين،ولابد تظاهرات واعتصامات ومعارك كلامية، حتى يتحرك الجبل خطوة..دائما قصيرة لا تفى تماما بالمطلوب!! نعلم علم اليقين بعض سمات الشخصية العسكرية، التى تجد نفسها – فى مواقعها العسكرية- مسئولة عن أرواح البشر،ومقدرات الوطن، لابد أن تحسبها أكثر من مرة،ولابد أن تفكر وتمعن التفكير، ولابد أن تتأنى،ولا تتعجل...لكن إدارة الأوطان، غير إدارة المعارك العسكرية، وإدارة الثورات غير إدارة المعسكرات والقشلاقات.. كان من المفروض – مثلا- فى أيام الثورة الأولى أن يتم التحفظ فورا على عشرات من رموز النظام وقادته، لكنهم تُركوا فى قصورهم وفيلاتهم مدة شهرين من الزمان، ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء خارق، لمعرفة أو تصور، ماذا فعل هؤلاء عندما تأكدوا من سقوط نظامهم العفن، من حيث ترتيب الأمور الشخصية الخاصة بهم من أموال سرقت ،وأراضى نهبت، وقصور شُيدت على عظام المصريين وبدمائهم... وتمر شهور ثلاثة، يشغلون الناس بتحقيقات ومحاكات، لا أحد يعرف عنها شيئا، وكان لابد من تسيير الملايين مرة أخرى، فى كل مرة، حتى يتم اتخاذ قرار واضح بأن – مثلا- تكون هذه المحاكمات علنية ومذاعة تلفزيونيا، حتى يطمئن الناس – وهذا حقهم دون تشكيك فى قضاء- ، فضلا عن حقيقة إنسانية لا ينبغى ان تُنكر، أن الذى نُهب، وظُلم ، وقُهر، وأُذل، من حقه أن " تبرد ناره " فيرى ظالمه يذوق بعضا مما أسقاه إياه..هل كان أمر مثل هذا يحتاج شهورا؟ والأدهى والأمر من كل هذا هى أن المسائل التى تدور حولها المحاكمات، مسائل مالية مدنية، يستطيع المحامون " الشطار " أن يكسبوها بغير صعوبة، ويقولون أنه لا يوجد شئ فى القانون اسمه " الفساد السياسى " ، مع أنه واضح وظاهر، وهو ما يتطابق مع ما فى القانون عن " التواطؤ " ، و" التحريض" ، فضلا عن تساؤل: لِم لا يجتمع الجمع من فقهاء القانون ليفكروا فى وسيلة قانونية شرعية، يتم بمقتضاها محاسبة الفَسَدة السياسية؟ إن الطبيب الذى يهمل فى علاج مريض ويخطئ ، يخضع لحساب عسير، وكذلك المهندس الذى يخطئ أو يغش فى وضع أساس عمارة فتنهار، يُحاسب حسابا نشددا، فما بالنا بمن أفسدوا بناء مصر كلها ؟ وما بالنا بمن أهملوا علاج عشرات الملايين من المواطنين ،وما بالنا بمن خربوا قامة تاريخية لوطن مثل مصر؟ أين أنتم فقهاء القانون وعلماؤه؟ ألم يبادر فقهاء سابقون، فى " تفصيل " القوانين الحامية للفساد، والميسرة له،والمستبعدة للشرفاء والوطنيين؟ فيما عرفناه " بترزية القوانين "، فهل يسهل عمل ترزية قوانين للفساد، ونعجز عن العثور عن ترزية قوانين المحاسبة وتطهير الوطن؟ ولأن المجلس العسكرى، دستوريا هو المسئول ، كان لنا أن نعتبره هو الجهة التى توجه إليها مثل هذه التساؤلات!! وإذا كان من حسن حظى أن عشت تاريخ مصر منذ أول عام تولى فيه الملك فاروق الحكم حتى الآن، فإننى أعجب حقيقة من تساؤل لا أدرى عنه إجابة : إذا كان المجلس العسكرى هو صاحب السلطة الحقيقية ،وإذا كان للمجلس رئيس هو المشير طنطاوى، فلم لا يظهر للناس مخاطبا إياهم فى القضايا الأساسية، ويترك الأمر لبعض المتحدثين باسمه، مع الاحترام الشديد لهم والتقدير؟ ثم إن تخبطا عجيبا نراه فى بعض القرارات، فما من مصرى إلا ويعجب للإبقاء على هذا النص العجيب الفريد فى العالم ، الذى يقول بالاحتفاظ بنسبة 50% عمال وفلاحين، حيث لا يستطيع الفلاحون والعمال الحقيقيون – فى ظل الإمكانات الحالية – أن يخوضوا غمار المعارك النيابية، لتنتهى العملية إلى من هم ليسوا – فى الحقيقة – لا عمال ولا فلاحين؟ وما هذه المهازل التى لم نر لها مثيلا فى تاريخ مصر الحديث الخاصة باختيار الوزراء، مما جعلنا – لأول مرة منذ 25 يناير- نقول بيننا وبين أنفسنا: فعلا لقد كان أمن الدولة هو الذى يحسم الأمر فى " التحرى" عمن يصلح من الوزراء، ولعل هذه التجربة المؤلمة فى تأليف الوزارة ، تجعلنا نعيد الاعتماد على أمن الدولة فى هذا الشأن، ما دام المعيار الآن ليس هو الولاء للنظام، وإنما هو الاختصاص ، فضلا عن تقارير الرقابة الإدارية؟ لقد خُيل لنا – أحيانا أن رئيس الوزراء ، كان يسأل هذا وذاك: "ما تعرفش والنبى واحد ينفع وزير – مثلا – للاتصالات؟" فيعثر له الرجل على واحد، فيجئ آخر ليكتشف أن هذا الوزير عليه كذا وكذا من الملاحظات، فيسرع شرف إلى معاودة الكَرّة مرة أخرى، فى مشهد عبثى حقا! لقد جنحت العملية إلى " الكوميدية " حقا: فلان يتم اختياره للوزارة ، ثم إذا بنا نرى غيره،ومن استقال ، نرجوه أن يستمر ..إلى غير هذا وذاك من مواقف مؤسفة لا تليق بمن يحكم بلدا مثل مثر، حتى لقد كادت ألستنا، بعد قلوبنا أن تنطق: من لا يستطيع تحمل هذه المسئولية ، فليرحل! ووصل المشهد الكوميدى إلى قمته، بأن " ترشزم " الثوار مع الأسف الشديد ، فإذا بنا نرى عشرات الائتلافات، حتى أصبحنا فى شك فى بعض الأحوال من بعضها،وكأن العملية تحولت إلى " سبوبة شهرة" والظهور فى الفضائيات، ومثل هذا التشرزم لابد أن يتيح الفرصة لظهور مجموعات ربما لا يكون أصحابها من الثوار الحقيقيين ، بل ربما يكون من المدعين، وما عليهم إلا أن يقفوا الآن فى ميدان التحرير وأن يناموا بعض الليالى حتى يحق لهم التحدث باسم الثوار، وبالتالى بدأنا نرى مجموعة على هذا الرصيف تقول نريد فلانا وزيرا، وتقول مجموعة أخرى ، لا نريد عِلاّنا، وغُمّ علينا وأصبحنا نواجه صعوبة تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بل وأصبح كثير منا فى خوف أن ينطقوا بمثل هذا، حتى لا يُحسبوا من أعداء الثورة، فالملكية العامة للثورة، تتيح مع الأسف، لبعض من لم يشاركوا فى صنعها أن يدعوا هذا ،وبالتالى يحكمون ويقررون : هذا نريده وذاك لا نريد، هذا القرار يعجبنا وذاك لا يعجبنا؟ اعملوا معروف ، أصحاب الشأن... لا تكرروا تجربة الإدارة الفاشلة لنتائج انتصار 73، التى أضاعتها...فالثورات لا تتكرر، بنسبة تكرار الحروب، فضلا عن أننا لا نتحمل تصور أن تتسرب الثورة الفذة من بين أصابعنا!!