إن أقسى ما يمكن أن يشعر به مصري يعشق وطنه، وقد وهب نفسه وأغلى ما يملك لهذا الوطن، ولأجل حريته ورفعته ومستقبله، أن يجد هذا الوطن تتجاذبه الأيدي وتتناوشه الألسنة، وتتنازعه العقول، محاولةً الاستئثار به واحتكار ملكيته، والمصادرة على الشركاء فيه، فتكون النتيجة تمزيق هذا الوطن وتدميره. إن هذه حال الثوار الحقيقيين من المصريين، الذين أشعلوا جذوة ثورة الخامس والعشرين من يناير، وحال الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، والتحقوا بهذه الثورة ليحموها بأرواحهم لكي تصمد وتستمر، حتى تحقق أهدافها، والذين قضوا الأيام الشاتية والليالي الباردة في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر، لا يأبهون بما جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ولا تفت في عضدهم مركبات الظالمين وهي تسحق رؤوس وعظام إخوتهم أمام أعينهم، ولا يرهبهم أزيز الطائرات التي حلقت فوق رؤوسهم، ولا يهربون أمام الرصاص الذي يتطاير من حولهم، ولا تثبطهم الأبصار التي زاغت، والقلوب التي بلغت الحناجر، والظنون التي تعصف بهم. في هذه الأيام العصيبة التي ابتُلي فيها الثوار وزُلزلوا زلزالاً شديدًا، فسقط منهم شهيدًا من سقط، وفقد عينه أو عينيه أو طرفًا من أطرافه من فقد، وشُوِّه جسده من شُوِّه، كانت هناك فئة أخرى من الناس، حملوا بين ضلوعهم قلوبًا مريضة، جبنوا وركنوا إلى الذين ظلموا، وملأ الخوف قلوبهم، فكنت تراهم ينظرون إلى الثوار (تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) اعتقادًا منهم بأن هذا الشباب الغض لا طاقة له بالظالم وجنوده، وأنهم لا شك مهزومون، أخذت هذه الفئة في تلك الأيام العصيبة الحالكة تنادي في الثائرين: (لا مقام لكم فارجعوا)، وتقوم بالإرجاف والتعويق بينهم، وتخوفهم على بيوتهم وأبنائهم من جحافل البلطجية الذين يهجمون على البيوت في غيبة أصحابها، صارخين: (إن بيوتنا عورة)، وما هي بعورة، إن يريدون إلا فرارا وإرجافًا. فإذا جزى الله الصادقين بصدقهم، ومنَّ على الصابرين بنصره، وردَّ الذين قتلوهم وظلموهم بغيظهم لم ينالوا خيرًا، وأنزل الطغاة من صياصيهم، وقذف في قلوبهم الرعب وأذلهم، وفتح أبواب الحرية ليتنسم الشعب كل الشعب عبيرها، وأمِن الناس من خوف القهر والبطش والإذلال، رأينا هذه الفئة وقد سرت في عروقها فجأة دماء الشجاعة، ودبت في حناجرها هرمونات البطولة، وتحولوا في ظل الأمن على أنفسهم ومصالحهم إلى ثوار!! بل وأخذوا في المزايدة على أصحاب الثورة الأصلاء الذين كانوا سببًا في توفير هذا المناخ لهم ودفعوا ثمنه غاليًا، وقد افتقدَتْهم بالأمس ميادين الثورة الحقيقية. رأينا من هذه الفئة تصرفات عجيبة، نبذها كل من شارك في الثورة قبل تنحي مبارك، وكم سمعنا من الثوار الحقيقيين كلمات يملؤها الأسى مفادها أن هذا ليس ميدان التحرير الذي عرفناه، ولا هذه الوجوه هي الوجوه التي ألفناها وامتزجت دماؤنا بدمائها، ولا هذه الأرواح هي الأرواح التي كانت تحلق في سماء الميدان فتسكب على كل من فيه السكينة والحب والترابط، رغم اختلاف الأيدلوجيات والمرجعيات، ورغم ما يحوطه من نذر هلاك. هذه الفئة لا ترتع في "التحرير" أو في غيره من الميادين فقط، وإنما ترتع وترعى في بعض الفضائيات والصحف، وتضحكون ألمًا حينما تجدون بينها وجوهًا تحرض على الفوضى والتصرفات غير المسئولة بدعوى الثورة، وهي نفسها التي كانت تبكي أيام النظام السابق خائفة على الأمن والاستقرار، وسبحان مغير الأحوال!!. إن كثيرين من أبناء هذا الوطن الذين يملؤهم الحدب عليه ويستبد بهم القلق على مستقبله يجدون أنفسهم حائرين أمام تلك الفئة التي نبتت وخرجت من جحورها بعد أن استدفأت واطمأنت، إما جاهلة مخدوعة، وأما مدفوعة مأجورة. وأخشى ما أخشاه أن يصل بنا الأمر إلى التسليم لهذه الفئة، لا عن اقتناع بهم ولا بمواقفهم، ولكن لمجرد الخوف على الوطن من التمزق والتشرذم، ومثلنا في ذلك مثل تلك المرأة التي نازعتها أخرى في وليدها وادعت أنه لها، فلما تحاكمتا إلى سليمان (عليه السلام) حكم بتقسيم الوليد بينهما مناصفة، فلما سمعت الأم الحقيقية ذلك سارعت بتسليم وليدها إلى الأم المزيفة خوفًا على ابنها، فلئن يحيا ولدها في أحضان أم أخرى خير من أن يمزق فلا يعيش مطلقًا!!. واليوم كثرت الأمهات، وكثر مدعو الوصل بليلى، وليلى ليس لها لسان لتقر لهذا المدعي أو لغيره بذاك. وليت هؤلاء المدعين كانوا ممن تعفرت أقدامهم بتراب الثورة الحقيقية، واغبرت ياقاتهم البيضاء من عرق وعناء الإقامة والسهر في الميدان تحت الضغط العصبي الشديد والقلق والتوتر والخوف، وانحنت ظهورهم تحت ثقل العمل الجاد والدؤوب خلال السنوات العجاف الماضية، ودفعوا من حريتهم وأموالهم واستقرارهم وأمنهم الكثير! لكن معظمهم إما من أحداث السن قليلي الخبرة المندفعين، الذين يعتقدون أنهم بإساءة الأدب واحتراف السب يذودون عن ثورة لم يشاركوا فيها، ولا يعرفون أن ما يفعلونه إنما هو عين الإساءة لهذه الثورة، وعين الهدم للمستقبل الذي قامت من أجل تحقيقه. وإما هم بعض الخائفين على مصالحهم الشخصية أو الحزبية الضيقة، والذين يعاندون رغبة الجماهير العريضة التي أعلنوا عنها في أول استفتاء حر تشهده البلاد، فلم يرضهم هذا، ورفضوا النزول على حكم الأغلبية وما جاءت به الديمقراطية طالما أنه خالف هواهم ومصالحهم، وقد كانوا من قبل يستفتحون علينا بها، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا بها!. وبنظرة عابرة على الفضائيات المهتمة بنقل الفعاليات التي يقوم بها هؤلاء، وتتحاور مع بعضهم، يظهر لنا من الوهلة الأولى ضحالة الثقافة، ووهن الحجة، وضعف المنطق، والبحث عن بطولة زائفة، على عكس ما كنا نراه في الأيام "الذهبية" للثورة. ويبدو أن البعض ممن فاته اللحاق بقطار الثورة الحقيقية، وندم على تردده وعدم مشاركته فيها بعد نجاحها، أراد أن يعوض ما فاته، فأمسك بذيل الثورة، وقفز في العربة الأخيرة من القطار، لعله يجد له مكانًا، أي مكان!!. وبين هؤلاء وهؤلاء يبقى البعض من المخلصين، وبعض الذين شاركوا بالفعل في الأيام الأولى للثورة، ولكنهم لقلة وعيهم ونقص خبرتهم، يُستدرجون للمشاركة في الفوضى، ويتم استغلالهم من قبل أصحاب المصالح، حيث يثيرونهم ويضربون على الأوتار الحساسة عندهم، ويدفعونهم للمشاركة معهم، إما بتلبيس المفاهيم، أو بالكلام الحق الذي يراد به الباطل، أو تحت ضغط الحاجة المادية أو المعنوية، ليكونوا وقودًا لمعركتهم، ورقمًا يرفع من عددهم. من كان يتصور في الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير أن يحدث عراك في الميدان على خلفية فصائلية أو للدفاع عن مصلحة غير مصلحة الوطن، أو تعلو أصوات فصيل بسبّ فصيل آخر، ومناوشة منسوبيه والاعتداء عليهم، لا سيما أن هذا الفصيل المعتدى عليه اعترف مخالفوه قبل موافقيه بأنه كان درعًا للثورة والثوار، وأنه كان من الأسباب المباشرة لنجاح هذه الثورة وحياتها. من كان يتخيل أن يهان أحد فرسان الثورة وهو الشيخ صفوت حجازي في الميدان، فيسبه بعض الغلمان الأحداث، ويقذفونه بزجاجات المياه، ويرفعون أحذيتهم في وجهه، ويطردونه من الميدان؟!! صفوت حجازي الذي قاد مع فرسان آخرين جموع الثوار للتصدي لجحافل البلطجة والإرهاب يوم 2 فبراير وقبله وبعده، وكان دائمًا في مقدمة الصفوف لا يجبن ولا يتراجع ولا يأبه أن يصاب أو يستشهد، كقائد حقيقي، ليس كقادة الصالونات والمكيفات والشاشات والميكروفونات الذين يفرضون أنفسهم علينا الآن، وهو بذلك لا يمُن على أحد ولا يطلب الجزاء من أحد إلا الله، نحسبه كذلك. من كان يتصور أن جيش مصر الذي حمى الثورة والثوار، وانحاز إليهم، ورفض أن يكون أداة في يد الطغاة لقمع الثورة، من كان يتصور أن تهان رموزه وتتهم قيادته وأفراده من قبل "محدثي الحرية" الذين نسوا ما قدمه هذا الجيش وما زال يقدمه، وهو القادر أن ينفذ غضبه إذا أراد، وأن يقمع هؤلاء إن شاء. وليس في هذا تحريض للجيش على فعل هذا، فنحن نرفض المساس بحرية أي مصري وكرامته ولو اختلفنا معه، ولكن ماذا لو استمرت هذه التصرفات الطائشة من قبل هؤلاء الذين يقطعون الطرق الحيوية، ويعطلون المصالح الحكومية، ويعيقون حياة المواطنين!!. من كان يتصور أن رجلاً مثل الدكتور عصام شرف، بكل ما يتحلى به من إخلاص ظاهر، ويتسم به من خلق عال، وتواضع جم، وتلقائية غير متكلفة، وما يمتلئ قلبه به من حب لهذا الوطن، وما أثبته من انحياز كامل للثورة والثوار حتى من قبل أن يسقط النظام، من كان يتصور أن تعلو أصوات بإهانته واتهامه، وتطالبه بالرحيل دون أن تعطيه الفرصة لامتلاك أدوات التغيير والإصلاح!!. إننا لا شك قد نشترك مع هؤلاء في بعض المطالب العامة التي يجتمع عليها الشعب كله، فنحن ضد الاستبداد، وضد التباطؤ في تحقيق المطالب العادلة، وضد التفريط في دم الشهداء، وضد التسامح مع المجرمين والقتلة والفاسدين، ولكننا في الوقت ذاته ضد الفوضى، وضد التخريب، وضد التخوين، وضد تعطيل الإنتاج، وضد التسرع والقرارات الهوجاء، وضد المصادرة على رأي الأغلبية الذي قالته بمنتهى الحرية، وضد ادعاء الوصاية على الشعب. كما أن هذه المطالب المجمع عليها ليس هذا هو سبيل تحقيقها أو المطالبة بها، وليست المظاهرات الدائمة والاعتصامات المستمرة والاستفزازات المرة للجيش هي الحل الناجع دائمًا في كل الأمور، وإن كان تسربَ لكثيرين هذا المفهوم نتيجة حدوث بعض الاستجابات وتحقيق بعض المطالب قبيل أو بُعيد هذه الفعاليات، فهو مما نعتب به على المجلس العسكري والحكومة، ونطالبهما بأن يعيدا الثقة للشعب بأن مطالبه العادلة كلها ستتحقق دون أن تضطره وتدفعه لمثل هذه الأمور التي يستغلها أصحاب المصالح في ألا يستقر هذا الوطن وألا يصل لبر السلامة. www.ensan.us [email protected]