أُكملُ ما بدأت به في الأسبوع الماضي حول كتاب العادة الثامنة (من الفعالية إلى العظمة) لستيفن كوفي وكيف يمكن الاستفادة من أفكار هذا الكتاب لتشخيص الداء الذي تعاني منه سورية تشخيصاً صحيحاً وبالتالي تقديم العلاج الصحيح. يعتقد ستيفن كوفي أن أساس القيادة الناجحة هي معاملة الناس كبشر والإيمان بالإنسان وقيمته وقدراته وإمكانياته وعندما سئل مرة عن تعريف القيادة أجاب: (هي إشعار الآخرين بقيمتهم وإمكانياتهم بشكل واضح حتى يروها في أنفسهم) ويرى أن هذا النوع من القيادة هوالذي يطلق طاقات الإنسان الكامنة ويجعله شخصاً مبدعاً ومعطاءً. ما الجهد الذي بذله النظام السياسي في سورية على مدى العقود الماضية لكي يُشعر السوريين بقيمتهم وإمكانياتهم؟! ما فعله هوالعكس تماماً.. عندما نصَّبَ حزب البعث نفسه بالقوة وصياً على الدولة والمجتمع فكأنه يقول لأفراد هذا المجتمع (أنا لا أؤمن بكم، لا أؤمن بطاقاتكم وإمكانياتكم، أنتم لا تحسنون الاختيار ولو أعطيت لكم الحرية فستقودون أنفسكم إلى الدمار! أنتم لا يليق بكم إلا العصا والقهر والإكراه) هذا الكفر بالشعب دفع الشعب إلى الكفر بنفسه فاعتقد أنه عاجز حقاً وأنه أمام خيارين فقط (الاستبداد أوالفوضى) ونسي أن سورية عاشت قبل استيلاء الحزب على الدولة ديمقراطيةً من أعرق الديمقراطيات في العالم وأنه كانت لدينا انتخابات حرة وصحافة حرة ومحاسبة حقيقية للمسئولين لا تستثني أحداً والتاريخ شاهد على ذلك (عندما تعطلت سيارة رئيس الجمهورية شكري القوتلي تقدمت الحكومة بمشروع قانون لإجراء مناقلة بين مادة في الميزانية إلى مادة أخرى لشراء سيارة جديدة للقصر، إلا أن النواب الكرام وعلى رأسهم الاشتراكيون عارضوا ذلك وطلبوا إصلاح السيارة وهوما تم فعلاً ورفض تعديل الميزانية). إن الاستبداد لا يسعى إلى حرمان الإنسان حريتَه وحسب بل يسعى إلى حرمانه ما هو أغلى من الحرية؛ يسعى إلى حرمانه عشقَ الحرية والتوقَ إليها.. الاستبداد لا يسعى إلى سلب الإنسان حقَّه في العيش بكرامة وحسب بل يسعى إلى سلبه ما هوأغلى من ذلك؛ يسعى إلى سلبه إيمانَه بأنه يستحق العيش بكرامة! هذا لا يعني أن نكتفي بلوم الاستبداد.. فالشعوب في النهاية هي التي (تختار) وبملء إرادتها التخلي عن حريتها وحقوقها واحترامها لنفسها ولا تستطيع قوة على وجه الأرض مهما بلغت من البطش والطغيان أن تجبرها على ذلك والماضي والحاضر مليئان بالأمثلة وأقربها إلينا الشعب الفلسطيني المجاهد الذي لم تستطع أعتى قوة على وجه الأرض أن تركِّعه وتجبره على التخلي عن حقوقه. ما الذي يحدث عندما يعامل القائد الناس وكأنهم (أشياء) وليسوا بشراً؟ يقول كوفي في كتاب العادة الثامنة (عندها ينظر الناس إلى القيادة على أنها منصب وينتظرون حتى يتم إخبارهم من قبل صاحب المنصب الرسمي بما يجب عليهم أن يفعلوه، ثم يستجيبون بعد ذلك لتوجيهاته. إنَّ هؤلاء الناس يلومون القائد الرسمي إذا لم تسرْ الأمور على ما يُرام ويُرجعون الفضل إليه إذا سارتْ الأمور جيِّداً وعندها يشكرهم القائد على " تعاونهم ودعمهم". هذا الإحجام الشائعُ عن اتخاذ المبادرة والتصُّرف باستقلاليَّة يغذِّي الانطباع السائد عند القادة الرسميين بأنَّ عليهم أن يوجِّهوا أويديروا أتباعهم؛ إذ يعتقدون أنَّ هذا ما يجب عليهم فعله ليدفعوا هؤلاء الأتباع إلى العمل. تتسارع هذه الدائرة لتتحوَّل إلى تبعيَّةٍ متبادلة تعزز فيها نقطةُ ضعفِ كُلِّ فريقٍ نقطة ضعف الفريق الآخر وتبرِّر سلوكَه السلبي. كلَّما تحكَّم القائد حرَّضَ سلوكياتٍ تستدعي مزيداً من التحكُّم، وهكذا تتحوَّل ثقافة التبعيَّة المتبادلة إلى ثقافة مؤسَّساتية حيث لا أحد يتحمَّل المسئولية، مع الوقت يثبِّتُ كلٌّ من القادة والأتباع أدوارهم في حلفٍ وثيقٍ بين طرفين، حلفٍ تمَّ دون وعي، يُضعفُ فيه كُلُّ طرفٍ نفسه باعتقاده أن الطرف الآخر يجب أن يتغيَّر لكي تتحسَّن الأمور.) أليس هذا وصفاً دقيقاً لما يحدث في سورية اليوم؟ ألسنا جميعاً واقعين في أسر هذه الدائرة الجهنمية من التبعية المتبادلة بين الرئيس والشعب؟ أليس هذه الدائرة هي السبب في فشل أكثر القوانين الإصلاحية التي أصدرها الرئيس بشار الأسد منذ توليه الحكم؟ ألا يلقي الشعب باللوم على السلطة دائماً في حين يلقي الرئيس بشار باللوم على (السيارة القديمة) التي يقودها؟ السيارة القديمة يا سيدي الرئيس لا تتحول إلى سيارة جديدة إلا بإصلاح سياسي جذري شامل يعيد سورية كما كانت دولة ديمقراطية تعددية قائمة على المنطق والسياسة والكفاءة والإخلاص لا على الأمن والتخويف وملاحقة الأحرار! عندما يُربى شعب بأكمله على فكرة القائد الأوحد الملهم الذي سيقود الناس (إلى الأبد!) كيف تنتظر من هذا الشعب أن يثق بنفسه وأن يتعلم المبادرة وتحمل المسؤولية!؟ إن التشخيص الصحيح للمرض هو الخطوة الأولى نحوعلاجه. مرض سورية اليوم ليس في فساد القضاء أو اختلاس الأموال العامة أو فشل القطاع العام أو اهتراء النظام التعليمي أو البطالة أو تردي أوضاع الطرقات والمستشفيات وما إلى ذلك.. هذه كلها أعراض للمرض الذي تعاني منه سورية وليست هي المرض ذاته. مرض سورية اليوم هو النظام الأحادي الشمولي الذي يحتقر الناس ويعاملهم وكأنهم (أشياء) وليسوا (بشراً). إذا قرر هذا النظام تغيير نهجه والمساهمة في نقل سورية سريعاً إلى النظام التعددي فسيدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وإذا لم يقرر التغيير فإن التغيير قادم لا محالة مهما أبدع النظام في تخويف السوريين وتيئيسهم وتحطيم إرادتهم ومعنوياتهم وسلبهم ثقتهم بأنفسهم وبأهليتهم للعيش الحر الكريم. إن الله أعظم وأجل وأقدر من أن يخلق الإنسان عاجزاً وممسوخاً ومشوهاً بحيث لا تمكِّنه إمكانياته إلا من خيارين (إما الاستبداد وإما الفوضى)! إن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، خلقه جميلاً عزيزاً حراً قادراً، وما منحه الله للإنسان لا يستطيع مخلوق أن يسلبه منه!!