استقر الاصطلاح السياسي علي تعريف " الثورة " باعتبارها حركة شعبية كاملة تقصد تصحيحا جذريا في الأوضاع السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية بكل وجوهها ، و بالتالي كلما كانت المطالب " عامة " كانت الثورة ناجحة ، و تظل تحظي بأكبر تأييد شعبي . و يبدأ "الإجماع الشعبي" في التراجع كلما برزت مطالب "خاصة" سواء "بفئة" مجتمعية ، أو بمجموعة "ثورية" . وإذا وجدت " الشارع" منقسما على بعض المطالب فاعلم أن الثورة إما حادت عن طريقها ، أو تسرعت فى تقديم "الخاص" على "العام" فى هذه المطالب . و إذا كانت ثورتنا الظافرة لم تزل تحوطها رعاية قلوب و عقول الشعب المصرى ، فذلك لأنها تبنت مطالب مست الحاجات الأساسية لأبناء الشعب ،و كانت المطالب العبقرية تتمثل فى :- 1- إسقاط الرئيس و نظامه و محاسبتهم على جرائمهم فى حق "الشعب". 2- تأسيس حياة ديمقراطية يحظى فيها الجميع بحقوق متساوية و كرامة إنسانية و حريات مصونة . 3- إسباغ "العدالة" علي ربوع المجتمع ؛ فلا تفريق على أساس دين أو لون أو جنس ، و إعادة تقسيم ثروات الوطن ، و جهود التنمية علي أسس متكافئة ، و رد الحقوق إلى أهلها ، و البت فى المظالم بجميع أشكالها . و هكذا أستمرت الثورة هادرة ,وهريقت دماء زكية لنيل المطالب الغالية ، و أستحقت احترام و تقدير العالم لنهضة "شعب" كانوا يظنونه ميتا . و لكى تظل ثورتنا "ثورة شعب" و ثورة "إجماع وطنى" ، و ليست حركة شباب ، أو هبة نخبة ، ينبغى أن ننبه إلى أمرين جنحا إلى تقديم "الخاص" على "العام" مما يهدد بانقسام الشارع ، و غياب الإجماع الشعبى . أولا : محاكمة قتلة شهداءالثورة وإغفال الشهداء مقاومي الاستبداد :- محاكمة قتلة الشهداء مطلب نبيل لا خلاف عليه ، و إنما الخلاف فى توقيته ومنطقه، و تبرز خطورته فى أنشغال الثوار بصراع "شخصى" مع النظام السابق ، فى حين أنهم قاموا للمطالبة "بالحق العام" ضد النظام الظالم . و أسقطت المطالب – بذلك – حقوق الشهداء و المعذبين والمحاكمين عسكريا على مدار ثلاثين عاما ، و اعتبرت – بلا منطق – أن حق شهيد الثورة مقدم على حق أى شهيد قاوم النظام على مدى وجوده ,و قتل بسبب موقفه السياسى .... و هذه المفارقة قد لا يشعرها شباب الثوار و هم يتذكرون زملاءهم وقد أضرجوا فى دمائهم , و حملوهم بأيديهم ، فثارت فى قلوبهم الطاهرة نزعة "الوفاء النبيل" لهذه الدماء الزكية ، و هذا طيب ، لكننا – بهذا – وضعنا "أفراد" الثورة فى صراع "ثأري "مع النظام البائد..هذا من ناحية,ومن ناحية أخري فقد أجلنا كافة الحقوق الشعبية المماثلة لأجل غير مسمى ، و هذا منطق لا يحظى بتأييد جموع ضحت و ارتفع منها شهداء قبل الثورة . و يثور تساؤل هنا: وهل نترك المجرمين من الداخلية و من أصدر إليهم الأوامر بقتل الثوارطلقاء؟ بالطبع لا .... لا يتركون....لاهم ، و لا المجرمون الذين سبقوهم من القتلة و المعذبين الذين يجلسون فى بيوتهم الآن يتضاحكون من جرائم زملائهم (قتلة الثوار) و التى تبدو بسيطة إذا ما قورنت بجرائمهم على مدار العقود الثلاثة . علينا كثورة أن نسعى "لبناء الدولة" أولا و بكل دأب و إجماع ، ثم يبدأ "قضاؤنا المستقل" - بكل جد و احتراف- فى التعامل مع (كل) قضايا "حقوق الإنسان"والتى لا تسقط بالتقادم .... أما التسرع فى نيل حق من الحقوق الماثلة فهو ينذر بضياع نظيره من الحقوق . لا تقل لى إن الباب مفتوح – بعد محاكمة قتلة الثوار – أمام الجميع لنيل حقوقهم ؛ لأن الزخم الثورى إذا ساند مطلبا منحه القوة الكافية للتحصل عليها ، أما ترك أصحاب الحقوق المناظرة "فرادي" فلن يضمن عودة حقوقهم لاسيما وأن البعض قد اعترته ظروف الزمان من الكبر و ضيق ذات اليد التى لا تمكنه من نيل حقوقه ، بينما الثورة هى الأقدر على المطالبة بالحقوق دفعة واحدة . لقد شاهدت بنفسى شبابا أصابته كل الأمراض في السجون ، و فتحت عليه النار داخل الزنازين المغلقة ، و عاشوا شهورا أو سنين داخل دورات المياه ، و قال لى الضابط "باسل" (سجن مزرعة طره) عام 2004 حين أتى ليخبرنا بوفاة الشهيد "أكرم الزهيرى": أنا كنت باشتغل حانوتى مع الجماعات الاسلامية ، يعنى كل يوم تعذيب و موت ... و أدفن ... و تعذيب و موت و أدفن .!! و"باسل" وأمثاله بعيدون عن يد العدالة اليوم ...وربما إلي الأبد..؟! محمد كمال السنانيري كان شهيدا , والمحامي عبد الحارث مدني ,والداعية مسعد قطب , والمهندس أكرم الزهيري , والدكتور علاء محيي الدين , وأكثر من ثلاثمائة شهيد اعتقلوا وعذبوا "بشبهة"الانتماء للجماعة الإسلامية , وأكثر من مائتين من الأهالي قتلوا تأديبا لشبهة إيوائهم لأبنائهم المقاومين للسلطة , وأكثر من 3000 حالة إعدام بأشكال متعددة لمعارضين (من هيومان رايتس ووتش), هذا ولاتتحدث عن مئات الآلاف من المعتقلين , والمحاكمات العسكرية , والتعذيب المنهجي , ...هل سننسي هذه المآسي التي كانت سببا مباشرا لقيام الثورة ؟ تمنيت لو أن محاكمة قتلة الثوار تكون مع محاكمة جميع المعذبين و القتلة على مدار ثلاثين عاما ، فى ظروف قضائية صحيحة بعيدة عن العصبية ، حتى تستقر القلوب و تظل الثورة ثورة" كل الشعب" ، مع اتخاذ الاجراءات الإحترازية ضد المتهمين من القتلة حتى لا يفلتوا من العقاب . ثانيا : المطالب السياسية الخاصة:- هذه الجموع التى ثارت كانت -لا شك- متفقة على إسقاط "الظلم" و إعلاء "العدل" ، لكنها متباينة المشارب ، متعددة الاتجاهات ، فمنها اليسارى و القومى و الليبرالى و الإسلامى ... و منها الكثير و الكثير "غير المنتمى", و من هنا فإن "الذكاء الجمعى" لا بد أن يقودنا إلى مطلبنا الأكبر و هو إقامة دولة القانون ، لأن الانشغال بأجندات سياسية ، سواء لصالح بعض مرشحى الرئاسة , أو بعض القوى السياسية التى خشيت على نفسها من قوى أخرى (الليبراليون فى مواجهة الإسلاميين مثلا) ، و محاولة تسيير دفة الوطن فى غير اتجاه "الإجماع الشعبى" , و صوب " المصالح الحزبية", ثم التخويف ,و التخوين , و معاداة "الآخر" السياسى ؛ كل ذلك -لا شك- ينذر بتمزيق "الشارع" ، و يفقد الثورة زخم "الإجماع الشعبى" ، و يستعيد روح اليأس من الإصلاح لدى "الشعب" صاحب المصلحة الأصلية فى البلاد . إن المطلوب ببساطة هو العودة إلى المطالب الكبرى للثورة و ليس فى إحداث تناقض بين الثورة و المجلس العسكرى,وتصوير هذا باعتباره بطولة ، أو وضع "المجلس" فى ركن التنقيذ الوجوبى لكل مطالب الثورة, بينما لا يملك الخبرة ولا الوقت لفعل ذلك ، إذ يتطلب بعضها سنوات ,كما لا ينبغى أن تتضاءل المطالب إلي "أنتخابات رئاسية أولا" ، أو "الدستور أولا" ، أو "وثيقة مبادئ دستورية "، أو "تأجيل الانتخابات لاستعداد القوى الناشئة" ، أو .... إلخ . بنبغى أن تكون مطالب الثورة قوية و فاصلة و على رأسها (بناء الدولة) فورا ,و بعدها – ككل ثورات العالم – تأتى "مصالح" القوى السياسية, و"تمايز" الأجندات الوطنية . من حق الجميع – بل وواجبهم – أن يتفقوا على "كيفية" الانتقال إلى "الدولة الحديثة" ، و أن ينشأ توافق عام لحماية مكاسب الثورة من "احتكار" أى فصيل لها .... كل هذا مشروع و أساسى, و لكنه لا ينبغى أن يكون متناقضا مع سرعة تحقيق آمال الشعب فى البناء الديمقراطى الصحيح للدولة . وعلى الثوار الذين استعدوا لتقديم أرواحهم لأجل وطنهم أن يتخلوا عن مطامعهم الحزبية و مصالحهم الضيقة ، و أن ينخرطوا فى حالة وفاق تمنع "التخندق" و "التحزب" الذى هو نقيض روح "ثورة الشعب" . و على القوى الإسلامية أن تجتهد فى مد جسور الوفاق ، و أن تستمر فى مبادرات "لم الشمل" التى بدأتها أثناء الثورة و بعدها . فالقدر جعل هذه القوى هى الأكبر و بالتالى فإن مسئوليتهم هى الأخطر . أتصور جيشا من المحاورين الإسلاميين , ينتشرون لينقلوا رسائل "الوفاق" و "التضحية" من أجل تحقيق مطالب الثورة . و أستلهم جيشا من الملائكة مصحوبا بالسكينة يتنزل علي شبابنا ليجمعهم على وحدة الصف ، و يجعل بأسهم على أعداء الوطن و ...... أعدائهم . [email protected]